في أزقة المدينة الجامعية حيث تنتشر كليات الطب والهندسة والمستشفيات الجامعية وعقول إنسانية فذة، جاءت من شتى بقاع العالم لتغرف من أنهار المعرفة وتنهل من إبداعات العقل البشري في تطوره وثورته العلمية، في هذه المدينة الجامعية التي لم يقتلها الإسمنت ويقطع أنفاسها صوت زمجرة حديد التسليح، في مدينة "بوسطن" الأميركية وبين الأزقة والدروب الملتوية وفي كل حي تقريباً تطالعك يافطة مكتوب عليها "كتبٌ قديمة وجديدة للبيع"، كتابك الذي تبحث عنه بدولار فقط، تفضل في الطابق السفلي واختر ما يناسبك.
دفعني فضول المغامرة للبحث عن كتاب قديم نشر في عام 1986 للكاتب المتمرد أو قل الملتزم "ميشيل بارينتي" Michael Parenti والمعنون "اختراع الحقيقة"، وهو بحث إعلامي جاد يقوم بدراسة مفردات ومفاصل الإعلام السياسي ودور الساسة في صناعة الإعلام الجماهيري.
دخلت المكتبة والتي تصورت أنها تتشابه كثيراً مع مكتبات الأرصفة، كتلك التي يمكن التطواف بها على أرصفة الشوارع في القاهرة أو بغداد، ولكن وجدت نفسي في مكتبة عامرة بالكتب، كتب شتى مفهرسة وفق الأنظمة المكتبية المعمول بها في أرقى محلات بيع الكتب، وموظف سبعيني مبتسم ينقر على أزرار حاسوب، يقول إن ذاكرة الحاسوب تختزن أكثر من ثلاثة ملايين كتاب، ويؤكد أن ذاكرته أقوى من ذاكرة الحاسوب، فهو لا يعرف أين وضع قدح القهوة الذي ابتاعه قبل دقائق من بائع القهوة المتجول العربي فهامي - يقصد فهمي.
تجولت بين الكتب، عالم من المعرفة المتناقضة والمتآلفة، ربما كانت كتب الطب والهندسة هي الأكثر، ولكن كتباً في شتى المعارف والفنون تجدها، كتب تبحث عن قارئ. المهم دلني العجوز بابتسامة ودودة على موضع ضالتي، فوجدت الكتاب المفقود الذي كان سعره عند إطلاقه 40 دولاراً ومدوناً عليه السعر الجديد ثلاثة دولارات.
يقول بارينتي:"ليس للرأسمالية ولاء لأي شيء تقريباً باستثناء منهجها المرتبط بزيادة رأس المال، لا ولاء إلا لفكرة تحقيق الأرباح على حساب الآخرين، أرباح تتحقق من عرق الشغيلة ومن محافظ الأُجراء، ذلك أن أول مفردة في قوانين السوق هي المزيد من الأرباح ولو كان ذلك على حساب كل أفراد المجتمع".
بهذا المدخل التحليلي يشخص الكاتب علة الفكر الإعلامي في الولايات المتحدة، منحياً باللائمة على مجموعات الضغط التجارية التي أصبحت ومنذ الستينيات من القرن المنصرم، صاحبة اليد الطولى والمهيمنة على صناعة القرارات السياسية والاقتصادية وحتى قرارات شن الحروب وإنتاج الأسلحة باعتبارها سلعاً يجب بيعها للحكومة.
يؤكد الكاتب أن مجموعات الضغط المالية استطاعت أن تتغلغل في مفاصل صناعة القرار السياسي، وأن يصبح أبناء هذه الطبقة والتي استطاعت أن توفر لهم تعليماً عالياً وفرصاً للولوج إلى مراكز صناعة القرارات المهمة في حياة المواطن الأميركي العادي الذي كان مقدراً عليه أن يدفع الضرائب ليتم استثمارها في عمليات شراء الأسلحة من مصانع أصحاب النفوذ المادي والهيمنة الاقتصادية، وحتى تستكمل عملية نسج الخيوط العنكبوتية حول رقبة المواطن الأميركي، فقد اتخذت سلطة المال قراراً بالسيطرة على أهم جهاز قادر على توجيه الرأي العام وتحديد مسارات توجهاته، فكان قرار امتلاك وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية لتكون أبواقاً تعبر عن توجهات أهل المال، كما تم فرض قيم جديدة على المجتمع الأميركي. قيم تتوافق بل تحقق أهداف تراكم وجمع المال، وباستخدام نظرية "الحقنة تحت الجلد" تم إدخال مفاهيم جديدة في تركيبة المجتمع الأميركي وفق نظريات الغاية تبرر الوسيلة.
من أجل المال يمكن استباحة كل المحرمات وحتى قتل البشر في أي مكان، لتكون الأرباح في نهاية المطاف هي الفيصل بين الرفاهية والعوز.
إذا كان الإعلان التجاري وآلته العملاقة والخبيثة وعناصره المرتبطة بالخوف والجنس والرفض أو القبول الاجتماعي قد ساهمت وبشكل فاعل في اختراق الضمير الواعي للمتلقي الأميركي، فإن عمليات اختلاق وفبركة وتزييف صناعة الأخبار وتوزيعها على كل وسائل الإعلام في العالم غدت المعول الأكثر أهمية في صراع الولايات المتحدة مع أعداء تقليديين أو وهميين يتم تخليقهم في مختبرات صناعة الرأي العام ومكاتب الإعلام وشركات العلاقات العامة. وكلنا يذكر كيف استطاعت هوليوود والصحافة الأميركية المرتبطة برأس المال نخر وتفكيك المنظومة الاشتراكية، وإسقاط الاتحاد السوفييتي تحت مبررات كثيرة بذريعة تخليص الشعوب من الخطر الأحمر في شرق آسيا وفي العالم العربي. ومع النجاح الأسطوري لفكرة إسقاط الدولة الأكثر تحدياً على المستوى العلمي والتقني والمنافس المحتمل على ثروات الشعوب المقهورة في العالم الثالث، كان لابد لأباطرة مصانع السلاح وأصحاب الاستثمارات ومديري الشركات العابرة للقارات من اختراع عدو وهمي جديد، فكان الإسلام والعرب هدفاً جديداً يحقق معدلات مبيعات خيالية تدر أرباحاً مليونية، والأمر يستدعي فقط قتل مسلم واحتلال عدد من آبار النفط والمشاهد المفتوحة على كل الاحتمالات في كل م