كان المُلفت في مؤتمر وزراء خارجية منظمة المؤتمر الإسلامي، انتخاب الأستاذ التركي إكمال الدين إحسان أُوغلو أميناً عاماً للمنظمة خلفاً للمغربي عبدالواحد بلقزيز. والطريف أنّ الذين تحفظوا على اختياره، ما كان من بينهم المغاربة، الذين تولى الأمانة العامة منهم رجلان: عزالدين العراقي، وعبد الواحد بلقزيز؛ بل مصر والسعوديـة، رغم العلاقات الوثيقة التي للبروفسور إحسان (كما يحبُّ أن يُدعى) بالبلدين والمسؤولين فيهما.
إكمال الدين هو ابن الشيخ المعمَّم إحسان أوغلو، مساعد مصطفى صبري آخِر شيوخ الإسلام بأسطنبول. وقد لجأ صبري إلى مصر هرباً من الكماليين، وجاء معه علماء أتراك معارضون لإلغاء الخلافة، وللعلمانية الصاعدة، وكان من بينهم والد إكمال الدين: الشيخ إحسان. وتبعاً للرحابة المصرية المعروفة، فقد جرى استقبال هؤلاء العلماء، وبعض آل عُثمان بحرارة، وعُيّن الشيخ إحسان موظفاً بدار الكتب المصرية لفهرسة المخطوطات التركية. وهناك بجوار الأزهر وُلد ابنه إكمال الدين بعد أواسط الأربعينيات، وما أن شبَّ عن الطوق حتى خَلَفَ والدَهُ في وظيفته بدار الكتب، في حين انصرف في الوقت نفسِه للدراسة بقسم الفيزياء بجامعة القاهرة. وإلى هذا الميل العلمي يعودُ اهتمامُهُ فيما بعد بتاريخ العلوم العربية والإسلامية، بالإضافة إلى الخبرة التي اكتسبها بالمخطوطات العربية والتركية نتيجة عمله الطويل بدار الكتب. ويقالُ إنه ما كان يريد العودة لتركيا لولا أنه اكتشف تركةً معتبرةً لوالدته بأسطنبول أواسط السبعينيات، فعاد عام 1977 إلى تركيا واستعاد جنسيته بعد اتصالاتٍ له بالمسؤولين الأتراك منذ أواسط الستينيات.
عندما ذهب الأستاذ إكمال الدين إلى تركيا أو عاد إليها، كان قد حقق شهرةً لا بأسَ بها بين المختصين بالعلوم العربية وتاريخها، ولذلك فقد عمل ببعض المراكز العلمية التابعة لجامعة أسطنبول، إلى أن استطاع إقناع الحبيب الشطّي الأمين العام للمؤتمر الإسلامي مطلع الثمانينيات، بواسطة أصدقاء عرب، بإنشاء مركزٍ للتاريخ والفنون والآثار الإسلامية بأسطنبول، تابع لرئاسة المؤتمر الإسلامي، في بعض قاعات قصر يلدز (قصر السلطان عبدالحميد الثاني 1876-1909)، التي استطاع البروفسور إكمال الدين بدوره، إقناعَ المسؤولين الأتراك بتقديمها للمركز الجديد. وقد استطاع الرجل بكفاياته المتعددة أن يحوّل المقرَّ الصغير إلى منتدىً علميٍ معتبر لدى كل المهتمين بتاريخ العلوم وبالحضارة الإسلامية من عربٍ وأوروبيين وأميركيين. ومنذ أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، صارت للمركز وظيفةٌ ثالثةٌ أو رابعةٌ هي إعادة تنظيم العلاقات العربية - التركية، بالإضافة لاهتمامه بمتحف الفنون، وبنشر الكتب العلمية والتاريخية عن العثمانيين والحضارة الإسلامية.
كان البروفسور إكمال الدين يقول لزواره الخليجيين والعرب الآخَرين: لا تغتروا بالمظاهر، وركّزوا على الجوهر الإسلامي لتركيا. فالعلاقات بإسرائيل عابرة، والعلاقات بالولايات المتحدة ضرورة استراتيجية، وأنتم محتاجون لتركيا أكثر من حاجتها إليكم. ومنذ صارت له وجوهُ نفوذٍ لدى المسؤولين الأتراك أيام تورغوت أوزال رئيس الوزراء المسلم المنفتح، انصرف إكمال الدين لمساعدة الجانب التركي على ترميم العلاقات مع العرب. والمعروف أنّ أوزال زار سوريا إبّان توتُّر العلاقات بين الدولتين بسبب مشكلة المياه، ودعم دمشق للثوار الأكراد. ومنذ ذلك الحين ظلّت علاقة إكمال الدين بسوريا متصلة، وقد زار الرئيس بشار الأسد في زيارة الدولة التي قام بها لتركيا قبل ثلاثة شهور، مركز التاريخ والفنون والآثار، وتحدث إلى البروفسور إكمال الدين على مدى ساعتين. أما المسؤولون العـربُ الآخَرون، والذين ما كانت عندهم مشكلات حاضرة مع تركيا، فقد كانوا يرون، وبخاصةٍ الخليجيون منهم، أنّ للبروفسور إكمال الدين – وهو المسلم والقومي التركي المعتدل – إسهاماً في تصحيح العلاقات بين الأمتين واستدامتها وتجديدها. ومع ذلك، فما كان للأستـاذ إكمال الدين إن يتسنَّم هذا المنصبَ الرفيع، لولا العهد التركي الجديد، والسياسات التركية الجديدة.
شهد اجتماع وزراء خارجية الدول الإسلامية بتركيا مواقف تركيةً لافتةً من الموضوعين الرئيسيين اللذين يهمان العرب: فلسطين والعراق. ففي شأن فلسطين تحدث وزير الخارجية التركي عن السياسات الشارونية غير المقبولة، وفي شأن العراق طالب بالسيادة الكاملة وبوحدة العراق، وعارض الحكم الذاتي للأكراد، ليس لأنه يضر بمصالح تركيا فقط؛ بل ولأنه يؤثر على وحدة العراق، ويدفع باتجاه الانفصال. وما كان هذا الموقف اللافتُ جديداً تماماً. فقد سبق لرئيس وزراء تركيا أردوغان أن قال أموراً مشابهةً أمام قمة الثماني بجورجيا، بالولايات المتحدة. وهكذا فإنّ هناك سياسات تركية جديدة تتصل بالتوازن العميق للبلاد من ناحية، وبمخاطبة العرب من مواقف متقدمة، وبإرادة تركيا الإسلامية الديمقراطية أن تلعب دوراً جديداً في المنطقة، وهو الدور الذي يستفيد من الضعف العربي، ومن الانحسار ا