في أوائل الثمانينيات، ألقى جيفري أرونسون، وهو من كبار المفكرين الاستراتيجيين في إسرائيل، محاضرةً في واشنطن، بدأها بالإشارة إلى ملاحظة مفادها أن العالم العربي يمر بمرحلة تحول من المجتمع التقليدي إلى المجتمع الحديث، وأن هذه المراحل عادةً ما تتسم بالقلق والاضطراب، ومن ثم لا يمكن للدولة الصهيونية أن تدخل في علاقة طبيعية مع مثل هذه المجتمعات وعليها أن تتوقع دخول "حرب المئة عام" مع جيرانها، على حد قوله. ورغم هذه المقدمة التي لا تخلو من وجاهة واتساق في منطقها الداخلي، فإن النتائج التي استخلصها أرونسون جاءت منافيةً تماماً للتفكير العقلاني، ناهيك عن الاعتبارات الأخلاقية، إذ اقترح أن تقوم الدولة الصهيونية ببناء حاجز نووي يفصلها عن الفلسطينيين. أما مشكلة اللاجئين الفلسطينيين فيمكن حسمها في نظره بأن تلقي الدولة الصهيونية قنابل نووية في البحر الأبيض المتوسط فتقوم المياه بجرف وإغراق مئات الآلاف من الفلسطينيين المقيمين في مجتمعات اللاجئين في لبنان.
ويُعد الانطلاق من مقدمات منطقية ذات مقدرة تفسيرية عالية ثم استخلاص نتائج تتسم بالشطط، بل والجنون، نمطاً متكرراً لدى كثير من القادة والمفكرين الصهاينة. وفي هذا الإطار، يمكن النظر إلى سياسة "الجدار الحديدي" التي تبناها جابوتنسكي ومن بعده بيجن ثم شارون. فهي تنطلق من مقولة منطقية مؤداها أنه لا يوجد شعب تنازل طواعية عن أرضه أو وطنه لشعب آخر، إلا إنها تستنتج من ذلك ضرورة إنشاء جدار حديدي يفصل بين "الشعبين" على أن يستمر المستوطنون في قمع الفلسطينيين إلى أن يقتنعوا بأنه لا مفر من قبول المستوطنين الوافدين.
وفي هذا الإطار أيضاً يمكن وضع أفكار وتحليلات المفكر الاستراتيجي الإسرائيلي فان كريفلد. فبعد مقدمات منطقية عن طبيعة الصراع الحتمي بين الفلسطينيين والمستوطنين، يخلص كريفلد إلى ضرورة نقل الصراع إلى الملعب الفلسطيني، ويضرب مثلاً بالمواجهات بين الدولة الصهيونية والدول العربية منذ عام 1948 حتى عام 1967 فيقول: "لقد دبّرنا أمورنا مع العرب الذين هم خارج دولة إسرائيل (أي الدول العربية)... فكل عشر سنوات كانوا يقومون بافتعال مشكلة "ما"، وكنا نأخذ مطرقتنا الكبيرة ونضربهم بعنف، مما يمنحنا بعد ذلك عشر سنوات من الهدوء، لدرجة أنهم يئسوا من الأمر في النهاية".
ويكمن حل المشكلة الفلسطينية المستعصية في "الفصل التام بين الصهاينة والفلسطينيين، فتُلغى كل الجسور المفتوحة، وتُوقف كل العلاقات الاقتصادية والسياسية. ولابد أن يكون فصلاً مطلقاً على مدار جيل أو جيلين، أو وفقاً لما يحتاجه الأمر. ويتطلب ذلك بناء سور مثل سور برلين، بل وأعلى منه إن أمكن، بحيث يحول حتى دون مرور الطيور".
ويرى كريفلد أن هذا السور عبارة عن رسالة إلى العرب في إسرائيل، ومضمونها هو: "إذا أردتم أن تعيشوا بيننا بأمن وأمان كمواطنين إسرائيليين، تفضلوا، وإن كنتم لا تريدون، فلتنتقلوا شرقاً. ومن أهم أهداف السور أن يوقف الوضع الآخذ في التبلور بين العرب في إسرائيل والذي يدفعهم نحو الانضمام إلى الانتفاضة". وانطلاقاً من الاقتناع التام بمبدأ الفصل، لا يمانع كريفلد في أن تتخلى الدولة الصهيونية عن القدس الشرقية أو مستوطنات الضفة الغربية. ولهذا يطالب المؤسسة الصهيونية بأن تتوجه إلى المستوطنين بهذه الكلمات القاطعة: "خلال ستة أشهر سنبني سوراً وسنخرج من هنا. لقد انتهت القصة وسنساعدكم على الخروج. وإن كنتم لا تريدون فلتبقوا مع الفلسطينيين، وليقتل الواحد منكم الآخر، أما نحن فلا علاقة لنا بالأمر". ويشبَّه فان كرفيلد سلوك المؤسسة الصهيونية بسلوك قائد عسكري قرر تفجير جسر، فيخبر جنوده بذلك حتى وإن كان بعض الجنود لا يزالون في الطرف المقابل.
ولكن ماذا لو استمر الفلسطينيون في الهجوم على الصهاينة حتى بعد الانسحاب وتفكيك المستوطنات؟ يطرح كريفلد عدداً من الحلول التي تتسم بالبساطة المفرطة، فيقول: "ثمة ضرورة لإعادة ميزان الردع بيننا وبينهم، ولا يمكن أن يتم هذا إلا بتوجيه ضربة قاسية لهم قبل أن نخرج، إذ لا يمكن أن نوجه لهم الضربة القاسية ونحن في الخارج، كل ما نحتاجه هو الفرصة المناسبة، وستُتاح لنا لو أقدم الفلسطينيون على عمل مثير إرهابي، من قبيل إطلاق صاروخ على طائرة جامبو تابعة لشركة العال، مما يؤدي إلى مقتل 400 مسافر على متنها، أو تفجير ناقلة كبيرة في مجمع تجاري فينهار على عشرة آلاف شخص في داخله... المقصود أننا نحتاج إلى فرصة لنقوم بضربهم ضربة موجعة، وتكون لنا مصداقية لرد الفعل".
ولا يخفي كريفلد أنه من أنصار ميكيافيلي صاحب كتاب الأمير، الذي تضمن فصلاً بعنوان "كيف يستعمل البطش؟". وانطلاقاً من الرؤية اليمكيافيلية، يوضح كريفلد مواصفات الضربة الموجعة، "فلابد أن تتم على الملأ وبسرعة مذهلة، وبكل قوة وقسوة وبلا تردد، ولابد من استعمال المدفعية وليس الطيران حتى لا نتعرض للهجوم من الخلف عند خروجنا، وحتى نبرهن لهم أن بوسعنا أن نفعل كل شيء، بحيث لا نحتاج إلى ضربة ثانية، إذ يمكن أن ن