باتت العلاقة بين القوة والتكنولوجيا أوثق وأكثر وضوحاً وتأثيراً في عصر العولمة وثورة المعلومات، وشكّلت موضوعاً لكم كبير من الكتب والدراسات في كل العالم. وربما ليس في مجال الشؤون الدولية إلا قلة من الباحثين الذين يتمتعون بخبرة أكاديمية طويلة وثرية كخبرة جوزيف س. ناي، كما إنه لم يكن بين المسؤولين في ميدان السياسة الخارجية الأميركية إلاّ قلة أيضاً ممن يتمتعون بقدرته على التأثير والمشاركة بقوة في صياغة شكل هذا الميدان على مدى أربعة عقود. وربما ليس هناك أيضاً من تمكّن مثله من الجمع ما بين الميدانين المهني والبحثي.
قدّم ناي، الذي يشغل منصب عميد كلية كينيدي للدراسات الحكومية في جامعة هارفرد والذي شغل مناصب عديدة في كل من وزارة الخارجية ووزارة الدفاع الأميركية إبان عهد الرئيسين كارتر وكلينتون، كتاب "القوة في عصر المعلومات العالمي" الذي لا يقل أهمية وعمقاً عن كتبه السابقة، وهو عمل يجمع للمرة الأولى عدداً كبيراً من أهم كتاباته حول النظام الدولي والعلاقات الدولية، مع مواد ومقالات جديدة محورها البحث في أهمية العلاقات الدولية.
وإضافة إلى رسم ملامح السياسة الخارجية الأميركية في الألفية الجديدة، يتطرق الكتاب إلى محاولة تقديم إجابات على مسائل رئيسية بالغة الأهمية تقدم بمجملها إيضاحاً عملياً لطبيعة العلاقات المعقدة في النظام الدولي في عالم ما بعد 11 سبتمبر ولمكانة وطبيعة القوة الأميركية بمختلف عناصرها في عالم ما بعد الحرب الباردة التي أحدثت تغيراً هائلاً في التوازنات وطبيعة العلاقات الدولية: هل أميركا امبراطورية في طور السقوط المحتوم؟ وهل أدى ظهور ما يسمى باللاعبين العابرين للقوميات (أي المنظمات والتكتلات التي تضم عناصر من مختلف القوميات وتتجاوز حدود الدول) إلى إبطال السياسات التقليدية الواقعية(سياسات القوة)؟
في الجزء الأول من الكتاب، والذي أخذ عنوان "القوة وحدود الواقعية"، يتطرق ناي إلى موضوع "الحروب القديمة والحروب المستقبلية"، وهو يرى أن التطور التكنولوجي أدى إلى تغيير مصادر القوة بعد أن كانت الحرب "هي اللعبة الأساسية التي يتم فيها لعب أوراق السياسات الدولية والبرهنة على صحة تقديرات القوة النسبية"، وبذلك انتهت صلاحية مبدأ اعتماد القدرة على الحرب كمعيار لاختبار القوة، و"هبط مستوى قبول الحرب كثيراً عما كان قبل 50 عاماً" على رغم أنها ما تزال خياراً قائماً في عالم تسوده الاتجاهات الجديدة العولمية. ويعالج ناي في الجزء ذاته موضوع الليبرالية والليبرالية الجديدة إضافة إلى النزاعات التي نشبت بعد الحرب الباردة.
وبالعودة إلى الموضوع الذي توسع فيه بكتبه ومقالاته السابقة، يتطرق ناي في الجزء الثاني من جديد إلى "قوة أميركا القاسية واللينة" ويرى أن لجوء القوى العظمى-"وحتى البلدان اللاديمقراطية"- إلى القوة يعرّض أهدافها الاقتصادية للخطر. ويستشهد ناي بكلام الكاتب توماس فريدمان الذي يرى أن "حشداً إليكترونياً" من المستثمرين يفرض النظام على البلدان ويتحكم بإمكانية وصولها إلى الرأسمال في اقتصاد عولمي. ولذا من الطبيعي أن يعرض ناي في فصول مختلفة لمواضيع "الطبيعة المتغيرة للقوة في السياسات العالمية" ولـ"الثورة المعلوماتية والقوة الأميركية اللينة"، وأن يرى في ضوء ما حدث في 11 سبتمبر وفي أفغانستان ضرورة "حشد التحالفات الدولية" وبناء المؤسسات للتطرق إلى التهديدات والأخطار المشتركة، باعتبار أنه ليس هناك اليوم بلد "يتمتع بالقوة الكافية ليحل مشكلات الارهاب العالمي لوحده"؛ وهنا يعقد ناي في الفصل السابع "روما الجديدة والعناصر الهمجية الجديدة" مقارنة تاريخية بين الامبراطورية الأميركية الحالية والامبراطورية الرومانية القديمة ليكشف عن أوجه الشبه الشديد والاختلاف بينهما، غير أنه لا يتخذ كغيره من المفكرين والكتّاب موقفاً مضاداً من تيار واحد بعينه في الولايات المتحدة، بل يعمد إلى مواجهة كل من التيارين اليميني واليساري في سياق رسم صورة الدور الأميركي في الشؤون الدولية في عالم ما بعد الحرب الباردة، وهو الدور الذي يتشكل على نحو دائم كمحصلة لاجتماع وتفاعل كل العناصر والمناهج في أميركا.
وتتجلى واقعية واعتدال آراء ومواقف ناي في بقية فصول الكتاب التي تكشف هي الأخرى عن عمق وبعد نظره وإدراكه الواسع للصورة الشاملة للاتجاهات العالمية الناشئة ولضرورة طرح مناهج وممارسات أخلاقية هادفة في السياسات الدولية، وهو ما أفرد له فصلين هما "الأفكار والأخلاقية" و"الأخلاق والسياسة الخارجية"، وفصل "معاهدة منع الانتشار النووي ومنطق اللامساواة" الذي يدعو فيه إلى التعقل في استخدام القوة النووية التي تهددت كل العالم في الماضي وما زالت تشكل عماد الردع والهيمنة.
ويرى ناي أن البلدان التي من المرجح أن تحصل على "القوة اللينة"- وهي التي يقول إنها "ليست مجرد انعكاس للقوة القاسية"- هي البلدان "الأقرب إلى المعايير العالمية للتعددية والليبرالية والحكم الذاتي" وهي الدول التي تتمتع بأكبر قدر من "إ