مسالك تاريخية شاقة ووعرة تلك التي مرت عبرها تجربة التطور الحزبي والتحول نحو التعددية الديمقراطية في اليمن، فما بين ظهور الجمعيات الأهلية ذات المحتوى السياسي المحدود بدءا من "هيئة النضال" في عام 1935، مرورا بتأسيس "حزب الأحرار" اليمني كأول حزب سياسي في البلاد عام 1944، وصولا إلى إقرار التعددية السياسية والحزبية في دستور دولة الوحدة في مطلع التسعينيات، هناك الكثير من الأحداث والتفاصيل الجزئية المهمة التي يشرحها بإسهاب وتعمق علمي كتاب "الأحزاب السياسية والتحول الديمقراطي، دراسة تطبيقية على اليمن ودول أخرى" لمؤلفته الدكتورة بلقيس أحمد منصور. وقد جاء محتوى الكتاب في ستة فصول و500 صفحة تناولت نشأة الأحزاب اليمنية ودورها في التحول نحو إقرار التعددية السياسية في اليمن، علاوة على دراسة التطور المؤسسي لهذه الأحزاب ووظائفها وطبيعة أبنيتها الداخلية. وتوضح المؤلفة في مطلع الدراسة أن التعددية السياسية والحزبية التي اقترنت بالوحدة بين شطري اليمن في 22 مايو 1990، لم تكن قرارا إراديا صرفا من النظامين وقيادتيهما في الشطرين، بل كان نتيجة لمجموعة كبيرة من العوامل والمتغيرات المحلية والإقليمية والدولية التي ساهمت في الدفع نحو التعددية الحزبية واعتمادها كركيزة أساسية للنظام السياسي لدولة الوحدة. لذلك كان قيام الوحدة عاملا رئيسيا وراء ظهور الممارسة العلنية للأحزاب السياسية في اليمن، إذ أحدثت تغيرا جوهريا في قواعد الصراع السياسي بين النظامين والقوى الحزبية القائمة. ومن قبل كان للتطورات التي لحقت بنظامي الشطرين على مدى العشرين عاما السابقة للوحدة، دور كبير في التمهيد للانتقال نحو الديمقراطية، كما كان انتهاء الحرب الباردة والتحولات الهيكلية في النظام العالمي على رأس العوامل والمتغيرات الخارجية التي دفعت الجهود الرامية إلى تحقيق التعددية الحزبية صوب أهدافها.
ونتيجة لأن التحول تم بشكل فجائي، فقد بدأت الأحزاب السياسية تمارس نشاطها السياسي في بيئة لم تتهيأ بالتدريج للعمل وفق مفاهيم الديمقراطية والتعددية السياسية ومبادئ حقوق الإنسان وحقوق المواطنة، خاصة أن النظامين السياسيين في شطري اليمن، ومن خلال أجهزتهما، عملا منذ ستينيات القرن الماضي على توجيه التنشئة الاجتماعية والسياسية باتجاه تكريس ثقافة سياسية أحادية لا تعترف بالتعددية.
وانطلاقا من ذلك ترصد المؤلفة ثلاث سمات أساسية للتحول نحو التعددية السياسية في اليمن: أولا كونه تحولا من القمة أي بمبادرة من النخبة الحاكمة التي قادته وسيطرت على خطواته، وثانيا أنه تحول سريع افتقد إلى منطق التدرج والتطور الطبيعي إذ انتقل فجأة من أقصى درجات الحظر الحزبي إلى الإباحة الكاملة لتكوين الأحزاب ونشاطها، وثالثا طابع الأزمة الذي غلب عليه وأدى إلى حرب 1994 ومن ثم أضعف مسيرة التحول الديمقراطي في اليمن.
وفي تحليل حول الإطار الدستوري والقانوني لذلك التحول، تشير المؤلفة إلى بعض الضمانات الداعمة للتعددية، مثل الأسس الدستورية المنظمة للانتخابات الرئاسية، لكنها توضح أن الدستور اليمني تشوبه عدة ثغرات لا تساعد على تحقيق الاستقرار المؤسسي، كما أن أغلب التعديلات التي أدخلت عليه عرقلت عملية التحول الديمقراطي وكرست هيمنة السلطة التنفيذية على باقي السلطات. وبشكل عام أدت القوانين الحاكمة للتعددية السياسية في اليمن وما تضمنته من شروط وتحكم لصالح السلطة التنفيذية، إلى إفراغ المنافسة الحزبية من مضمونها الحقيقي.
ويبحث الكتاب في تطور الممارسة الديمقراطية داخل التكوينات التنظيمية للأحزاب اليمنية، ويلاحظ ضعف البناء المؤسسي لهذه الأحزاب، كونها لم تستطع التكيف مع التحديات والظروف المتغيرة، خاصة في نموذج الانتقال من السلطة إلى المعارضة كما حدث مع "الحزب الاشتراكي اليمني"، أو في نموذج الانتقال من المعارضة إلى السلطة ثم مرة أخرى إلى المعارضة، كما حدث بالنسبة الى "التجمع اليمني للإصلاح"، مع ما يعنيه ذلك من تبدل في النظرة إلى الحزب الذي يتحول من السلطة إلى المعارضة ومكانته في المجتمع.
ورغم حدوث تقدم ملموس في عملية بناء الأحزاب السياسية اليمنية، إلا أن بنيتها القاعدية لا زالت تعاني قصورا تعذر استكماله مما انعكس سلبا على مجمل التفاعلات الحزبية الداخلية. وعلاوة على هشاشتها التنظيمية، فهذه الأحزاب تفتقد إلى الواقعية في كثير من برامجها الانتخابية، كما تفتقر هذه البرامج إلى تمايز جوهري فيما بينها.
وتختبر الدراسة مدى استقلالية الأحزاب السياسية اليمنية من خلال علاقتها بكل من المؤسسة العسكرية، والقبيلة، والمناطقية، وتصل إلى أن جميع الأحزاب اليمنية تخضع بشكل أو بآخر لأحد العوامل السابقة، فـ"المؤتمر" و"الإصلاح" يخضعان بدرجة كبيرة للمؤسسة القبلية، ويخضع "المؤتمر" بدرجة أكبر للمؤسسة العسكرية، أما "الاشتراكي" و"التنظيم الناصري" و"حزب الحق"، فتلعب القوى المناطقية فيها دورا بارزا، إذ يتركز النشاط السياسي والجماهيري لتلك الأحزاب الثلاثة في هذه الم