لا حاجة للالتحاق بقطار جوقة اللاعنين الذين يريحون ضمائرهم بالاكتفاء بالشّّّّتم الموسمي للقتلة كلما ذٌبح بريء باسم الإسلام وغيره. فالاستنكار للذي يجري في أرض العرب والمسلمين والعالم من اعتداءات إرهابية تطال الأبرياء، هو فقط جزء من ردٍّ الفعل المطلوب. وتلك الجوقة ذات النظرة التجزيئية للذي يجري في الحياة العربية تتجنب طرح السؤال الصعب.
السؤال: هل يحق للفاسدين أن يلقوا المواعظ على المجرمين؟ وهل سفك الدماء أشدًّ قباحةً من سرقة الأقوات وإسقاط المواطنين في حُفر العوز والذل للآخرين؟ ليست القضية قضية مقارنة بين فعلين مبتذلين تمارسهما أقلية في الحياة المجتمعية العربية، وإنما هي قضية رؤية للمشهد السياسي- الاجتماعي في كُليٍّته، وسبر أعماقه وفهم أجزائه بمقاييس أخلاقية واحدة. فإذا كان المجرمون الذين يقتلون بريئاَ من هنا وهناك يستحقون اللعنات، فان الفاسدين الذين يُقيٍّحون حياة الملايين لتنتهي شيئاً فشيئاً إلى موت بطيء مأساوي يستحقون اللّعن نفسه. إذ ليس اضطرار أرملة إلى بيع جسدها وشرفها لإطعام أطفالها، وذلك بسبب عدم وجود إمكانيات مالية لبناء نظام ضمان اجتماعي عادل يحميها، ناتجا عن سرقة المال العام من قبل الفاسدين، أقل همجية من قطع الوريد. وليس بتر إمكانية الحراك الاجتماعي لشاب يحلم بالخروج من مستنقع فقر وهامشية عائلته عن طريق الالتحاق بتعليم جامعي، لا يتوفر بسبب ابتلاع أقلية لجزء كبير من كعكة ثـــروات المجتمع وخيراته، أقل اعتداء على النفس البشرية من بتر سيارة مفخًّخة لسيقان بريئة.
الفاسدون والمجرمون جميعهم يلغُّّّّّّّّّّّّّّّّّون في دماء الأبرياء سواء أكان ذلك واضحاً للعيان في شوارع بغداد أم كان ذلك مخفياً وراء ألف قناع من المخاتلة أو مُبرّراً بتسطيح مفجع باسم الواقعية أو الهذيان العلمي أو تزوير الأديان من قبل كتبة السلاطين.
من هنا لا يُحزن المراقب أكثر من المنظر المضحك - المبكي لناهبٍ فاسدٍ يقف على منصّة ليتحدث بنفاق ممقوت عن فجيعته الشخصية في موت مواطن أو إنسان بريء على يد مجرمين إرهابيين، في حين أنه يرضى أن تكون الممارسة السياسية والاقتصادية والاجتماعية اليومية من قبله ومن قبل من حوله مبنيًّة على السرقة والتسلط والقهر والتهميش، مما يؤدي إلى موت عضوي أو معنوي للألوف والملايين من الفقراء المسلوبي الحقوق والكرامة الإنسانية.
الإرهاب الجسدي ممقوت إلى أبعد الحدود، لكن الإرهاب المعنوي المخفي هو ممقوت أيضاً. وتجزئة المجال الاجتماعي إلى مجالات صغيرة غير مترابطة، وتقييم العلاقات الاجتماعية والإنسانية التي تحكم كل مجال صغير منها بموازين قيمية مختلفة وبمساطر غير متساوية التقسيمات، هو أمر غير مقبول لا عقلاً ولا خلقاً.
دعنا نتوقف عن ترقيع الثوب العربي الممزق. فالقبول بتعايش المتناقضات في حياتنا والرضا بتأجيل المواجهات من أجل خاطر هذه الإيديولوجية أو تلك العادة الاجتماعية أو بسبب ذاك الظرف المحلي أو الدولي لم يؤدٍّّ إلاًّ إلى تراكم العلل والسقوط الوجودي الذي يعيشه العرب والمسلمون.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه: " أنه من قتل نفساً بغيرِ نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً". أليس إحياء الناس جميعاً يستدعي أن لا يكون بيننا لا قتلة الأبرياء ولا مفسدو الحياة؟.