أول خطوة على الولايات المتحدة وبريطانيا القيام بها هي الاعتذار للشعب العراقي والإعلان أن الحرب على العراق كانت خطأً، والتأكيد على أنهما ستنسحبان من جميع الأراضي العراقية، وتعوّضان العراقيين عن الخسارة في الأرواح والممتلكات، بما في ذلك آثار الحظر الظالم والعابث، المفروض منذ عام 1990، وأن تتعهدا بضمان استقلال العراق وسيادته، ودعم أي تغيير ديمقراطي يحقق المساواة بين العراقيين، بغض النظر عن انتماءاتهم الأثنية والدينية، واعتبار جميع التغييرات التي أدخلت على القوانين العراقية باطلة ولا أساس لها.
هذا الكلام أعلاه لم يصدر عن قيادة المقاومة في الفلوجة أو الكوفة أو كركوك، بل أعلنه سعد الله الفتحي، الرئيس السابق لمصلحة مصافي النفط العراقية في ندوة "فرص الأعمال في العراق" التي عُقدت داخل البرلمان البريطاني الأسبوع الماضي. وتوقع الفتحي، الذي يعمل حالياً مستشاراً للنفط في الإمارات العربية المتحدة أن يبدي العراقيون التفهم نحو أي محاولة لإصلاح خطأ الحرب، ويتعاونوا بإخلاص في القيام بما يقتضيه ذلك من إجراءات ضرورية. وقال إن كلامه قد يبدو من قبيل أحلام اليقظة، لكنه أهون بكثير من كلفة الاحتلال البالغة مليار دولار في الأسبوع، دون حساب الخسارة في الأرواح لدى جميع الأطراف، أو الأضرار المترتبة على الهياكل الارتكازية للعراق. وحذرّ من أن العراقيين لن يقبلوا أبداً بالاحتلال المباشر أو غير المباشر، ويرفضون قطعاً أي استقلال ناقص، أو مُكبّل بالقوات الأجنبية والقواعد العسكرية.
وندّد الفتحي، الذي ارتبط اسمه بإنشاء عملاق مصافي النفط العراقية "بيجي" في الثمانينيات بفشل المحتلين ليس فقط في إعادة بناء صناعات النفط العراقية، بل في إعادة إنتاج النفط بمستويات الحد الأدنى، وإخفاقهم حتى في استئناف صادرات النفط العراقي، بالحد الذي كان العراق يحققه قبل الحرب تحت ظروف الحظر. وذكر أن مصافي النفط وحقول إنتاج الغاز تعمل بنحو نصف طاقتها الإنتاجية، مع ذلك تتراكم الكميات المنتجة من وقود النفط في مستودعات المصافي، بسبب التدهور الاقتصادي وغلق عدد كبير من مصانع العراق.
وإذا كان الطلب من الغزاة الاعتراف بخطئهم يبدو من أحلام اليقظة فإن رفض العراقيين للاحتلال كابوس حقيقي تعيشه الإدارتان الأميركية والبريطانية، وتتوقعان ما هو أسوأ منه. فالنفط، سبب الحرب وهدفها سلاح مجرب بيد العراقيين، الذين حققوا في خمسينيات القرن الماضي أول نصر للعرب والمسلمين في استعادة ثرواتهم الطبيعية والتمتع بخيراتها. حدث ذلك في أعقاب فشل محاولة حكومة مصدق تأميم النفط في إيران وذبح أبرز زعمائها بانقلاب عسكري دبرته المخابرات الأميركية والبريطانية. وتعلّم العراقيون الدرس الإيراني جيداً فقاموا أولاً بثورة في عام 1958 لإسقاط النظام الخاضع للاستعمار البريطاني، وأقاموا حكومة وطنية سنّت القانون الرقم 80 الشهير، الذي ألغى امتياز شركة النفط البريطانية، المسيطرة آنذاك على نحو 99 في المائة من مساحة العراق.
واليوم يكرر تاريخ النفط نفسه في العراق بسبب الاعتقاد الموهوم لواشنطن ولندن بأن العراقيين، الذين سحقتاهما بحربين عالميتين و14 عاماً من الحظر سيستقبلونهما بالزهور. والتاريخ يقاضي من لم يسمع كلامه في القرن العشرين بثمن أكبر في القرن الحادي والعشرين. فالحرب الحالية على العراق واحتلاله نسخة أكثر دموية وخيبة من انقلاب عام 1963، الذي دبّرته المخابرات الأميركية والبريطانية وقام أيضاً على النفط والدم، حسب تصريح ألمع فيلسوفين في العالم آنذاك، البريطاني برتراند راسل والفرنسي جان بول سارتر. ومن مفارقات التاريخ العراقي المضحكة المبكية أن تحقق القوى القومية والبعثية، التي ساهمت في ذلك الانقلاب إرادة العراق، فتعمد إلى تأسيس شركة النفط الوطنية في عام 1964، وتشرع بعمليات الاستثمار المباشر للنفط، وبناء وتدريب جيش المهندسين والتقنيين والإداريين والعمال المهرة، ووضع الدراسات والخطط الاستثمارية وتنفيذها، واختراق الحصار المفروض على تصدير وتسويق النفط، وبناء أسطول الناقلات، ثم تأميم النفط في عام 1972 والسيطرة على كافة عملياته الاستخراجية والاستثمارية والتسويقية. وبعبارة موجزة حطّم العراقيون أسطورة شركات النفط الاحتكارية التي لا تُقهر. يعرض ذلك بحث "السياسة النفطية" المنشور في كتاب "احتلال العراق وتداعياته العربية والإقليمية والدولية" الذي يصدر قريباً عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت ومؤلف البحث رمزي سلمان، الذي يُعدً من ألمع الاستراتيجيين العراقيين في تسويق النفط، وفتح المنافذ البديلة له.
وعندما يتعلق الأمر بالنفط ليس هناك أكثر عمى ممّن لا يريد أن يرى. ولا شفاء لعمى من لا يريد أن يرى الملحمة التي سجلّها العراقيون حين بعثوا صناعة النفط من تحت ركام حرب عام 1990. الشهادة التي قدّمها عن ذلك غازي صابر العلي، الرئيس السابق لشركة نفط الشمال تصلح موضوعاً لأعمال روائية يبدعها في المستقبل أدباء العراق. ففي مقالة منشورة في شهر