يمكن القول نظرياً إن عصر العولمة هو عصر حرية التعبير المطلقة! وذلك لسبب بسيط مؤداه أن الثورة الاتصالية الكبرى التي قربت المسافات بين البشر بصورة لم تعرفها الإنسانية من قبل، استطاعت من خلال الأقمار الاصطناعية والقنوات الفضائية وشبكة الإنترنت، أن تعطي منابر لا حدود لها لمن لا صوت لهم. وهكذا فمن تمنعه حكومته عن حرية التفكير وحرية التعبير يستطيع أن يصمم لنفسه موقعاً على الإنترنت، ويذيع أفكاره كما يشاء. بل إن الحوار المتعدد الجوانب يسبح في آفاق الفضاء بغير قيود من خلال "غرف الدردشة" على الإنترنت، بحيث أصبح الأطفال والشباب والنساء والرجال من كل الأعمار يمارسونه.
حول حرية التعبير عقدت مكتبة الإسكندرية "ورشة عمل" قدمت فيها ورقة عمل رئيسية، وسمح لأطراف شتى مؤسسات أو أفرادا بتقديم أوراق غير ملزمة لأحد، بمعنى أنها لا تعبر إلا عن أصحابها.
وهذه الورشة تمهيد لندوة دولية ستعقد في مكتبة الإسكندرية في سبتمبر القادم بالاشتراك مع مؤسسة "منارة حرية التعبير" النرويجية، وهي عبارة عن قاعدة بيانات مهداة لمكتبة الإسكندرية تقديراً لرسالتها، وتتضمن معلومات ببليوجرافية عن الكتب والجرائد التي تمت مصادرتها عبر العصور، وكذلك عن التراث الفكري الزاخر عن حرية التعبير في مختلف أرجاء العالم.
وقد انطلقت ورقة العمل الرئيسية من "وثيقة الإسكندرية" التي صدرت في نهاية "مؤتمر قضايا الإصلاح العربى: الرؤية والتنفيذ" الذي سبق أن انعقد في الإسكندرية في مارس الماضى. وذلك لأن وثيقة الإسكندرية ركزت على حرية التعبير باعتبارها أحد المداخل الرئيسية للإصلاح، ومكوناً رئيسياً من مكونات مطلب الحرية بكل أبعادها السياسية والاقتصادية والثقافية.
ومن هنا كان منطقياً أن تركز ورقة العمل على القيود التي ترد على حرية الفكر والإبداع في المجتمع العربى. وقد صنفتها الورقة إلى نوعين من القيود: "أشكال الرقابة الرسمية" من ناحية و"أشكال الرقابة غير الرسمية" من ناحية أخرى.
وقد التفتت الورقة لتعاظم ظاهرة المنافي الإبداعية والفكرية، وهي ظاهرة مصاحبة لهجرة المفكرين والمبدعين العرب من بلد عربي إلى غيره، بل من الأقطار العربية إلي الأقطار الأوروبية أو الولايات المتحدة الأميركية أو غيرها من الأقطار، حتى يمارس المبدعون حريتهم في التعبير بعيداً عن حدود الرقابة.غير أن أشكال الرقابة غير الرسمية التي تقوم بها بعض مؤسسات المجتمع المدني تكاد تكون أخطر من أشكال الرقابة الرسمية. ذلك أنه إذا تتبعنا المعركة الديمقراطية الدائرة بين الدولة العربية المعاصرة في العقود الأخيرة، وبين المجتمع المدني الذي تم إحياؤه في بعض البلاد العربية أو الذي تم تأسيسه من جديد، لأدركنا أنها كانت ومازالت تدور حول توسيع إطار التعبير بكل أشكاله للمجتمع المدني، بعد أن احتكرت الدولة بأحزابها ومؤسساتها مجمل الفضاء العام.
ومن هنا كانت ممارسات بعض مؤسسات المجتمع المدني، وخصوصاً تيارات الإسلام السياسي في مهاجمة بعض الأحزاب السياسية المعارضة، أو التيارات الفكرية النقدية وإدانتها وتوجيه تهمة الكفر والإلحاد لها، خيانة صريحة للهدف الرئيسي الذي حددته لنفسها مؤسسات المجتمع المدني، وهو نقد الدولة والمطالبة بتوسيع المجال العام. وأخطر من كل ذلك أن جماعات الإسلام السياسي المتطرفة نجحت في خلق مناخ عام بين البسطاء من المواطنين، يقوم على أساس تكفير المبدعين بناء على حجج زائفة ليس لها من أساس.
وقد انقسمت ورشة العمل إلى محاور أربعة: حرية الفكر والإبداع، وحرية الرأي والتعبير في وسائل الإعلام، والعلاقة بين التشريعات والقوانين وحرية التعبير وأخيراً حرية التعبير ووسائل الاتصال الحديثة مثل الإنترنت وعلاقاتها بالملكية الفكرية ودور المكتبات في حق الحصول على الملفات.
والواقع أن المحور الأول عن حرية الفكر والإبداع الذي شاركت فيه نخبة من الباحثين والمبدعين وأدار مناقشاته باقتدار جابر عصفور، دارت بين جنباته مناقشات مهمة وساخنة.
ومرد ذلك – في التحليل الأخير – إلى انقسام الأعضاء بين تبني اتجاهين. اتجاه مثالي يدعو إلى حرية التعبير مطلقة بلا أي قيود أو حدود. واتجاه واقعي يؤكد على الحرية ولكنه يركز في نفس الوقت على أهمية أن تؤخذ اعتبارات الواقع في الاعتبار، تطبيقاً لمبدأ الملاءمة الثقافية، علي غرار الملاءمات القانونية التي يطبقها رجال القانون حين يفسرون النصوص القانونية. وتبدو مثالية أصحاب الاتجاه الأول فيما صرح به أحدهم وهو مبدع بارز، أن الحرية كل الحرية للمبدعين، حتى لو تطرق بعضهم لما يعتبر هجوماً على المعتقدات الدينية، علي أساس أن الفرصة ستكون متاحة لمن يدافعون عنها أن يفندوا الآراء النقدية التي يمكن أن تتطرف أو تشتط.
والواقع أن هذا التصور المثالي لمعارك فكرية مفتوحة بين النقاد والمدافعين حول قضايا حساسة وشائكة، تتجاهل المناخ الثقافي السائد في المجتمع العربي الآن، والذي يتسم بالتعصب والتطرف معاً. ويكفي أن نعطي مثالاً لحملة صحفية غوغائية قادتها إح