تستفحل ظاهرة خطيرة في الفضائيات العربية لها علاقة بالتوحش الإرهابي الذي صار يحتل مساحات زمنية على شاشاتها، وتحتاج تدخلاً سريعاً وفورياً من أعلى المستويات الإدارية في تلك الفضائيات. فالذي يراقبه المشاهد الآن هو أن هذه الفضائيات تكاد تنزلق إلى مربع الترويج غير المباشر للجماعات الإرهابية التي تستلذ بإراقة الدماء وسفكها بسبب أو بدونه، وتحت مرأى الكاميرا، وبمسميات الجهاد على اختلاف تنويعاتها. فالقتل والذبح وقطع الرؤوس والظهور في أشرطة فيديو يتفاخر فيها ملثمون بقتل هذا المخطوف أو ذلك الرهينة، يكاد يصبح خبراً عادياً ويومياً على شاشات تلك الفضائيات. والكارثة الكبرى أن هذا الدم المراق يساهم في تأسيس ثقافة دموية تشجع على استساغة أصناف القتل والذبح وسوى ذلك. ولا يبدو أن ثمة مناصاً من الإقرار بأن الفضائيات تساهم ولو بشكل غير مباشر في تشجيع تلك الثقافة وجعلها عادية. كيف حدث ويحدث هذا؟ ببساطة، دخلت جماعات الإرهاب المتطرف عصر وسائط "الصورة" و "الفيديو"، بريادة "القاعدة" وشرائط أسامة بن لادن، عندما اكتشفت أن هذه الوسائط تقدم لها خدمة هائلة عن طريق تمرير رسالتها الإعلامية من خلال الفضائيات. والفضائيات التي كانت مدفوعة بحس التنافس على اصطياد الخبر، ثم الصورة الحصرية، لم تتوان في انتهاج سياسة "مفتوحة" في استقبال "شرائط المجاهدين" وبثها كاملة في بداية الأمر، خاصة خلال وبعيد الحرب على أفغانستان، وتحسن الأمر بعض الشيء في مراحل لاحقة. لكن ذلك التحسن كان جزئياً وبطيئا، فقد نجح بن لادن في اقتناص منابر الفضائيات وتوجيه خطابه الفج والاستعدائي والكارثي إلى العالم الإسلامي كله، وكأنه خليفة المسلمين. وصاغ لغة "الفسطاطين" المكرسة لصدام الأديان والحضارات، والتي هي اللغة المناظرة للغة "صوموئيل هنتينغتون" التي أشبعناها نقداً وشتماً. ومع نشوب الحرب على العراق، ازداد التنافس الفضائي، وتوازى معه بزوغ جماعات قاعدية وشرذمات "جهادية" في العراق قتلت من العراقيين أضعاف أضعاف ما قتلت من قوات الاحتلال الأميركي. وفي خضم التنافس الفضائي والغموض "المقاومي" في العراق تزايد سيل "شرائط الفيديو" الجهادية المرسلة إلى الفضائيات التي كانت وما زالت على جاهزية تامة واستعداد مدهش لالتقاط أي شريط وبثه. وطبعاً، وقعت بعض الفضائيات في شراك عدة منها بث أشرطة مفبركة، أو أشرطة قديمة بيعت لها على أساس أنها تسجيلات حديثة وغير ذلك كثير. وبالتوازي مع ذلك نشأت سوق مالية سوداء وفساد موسع ارتبط بتلك الشرائط المذكورة. ففي كثير من الأحيان كان "الوسطاء" الذين يفترض أن ينقلوا هذه الشرائط إلى الفضائيات المنتظرة على أحر من الجمر يرفضون تسليمها من دون استلام أموال كبيرة لجيوبهم الخاصة.
نتيجة انتشار وعرض تلك الشرائط هي أن الجمهور العربي صار بالكاد يستطيع ملاحقة بروز "الأبوات الجدد"، و"المجاهدين" على اختلاف أنواعهم، لكن المتفقين على وسائل قتل بشعة لكل من يواجههم في الطريق: مدنيون، عراقيون، سعوديون، شيعة، سنة، أفراد من الأمم المتحدة، جمعيات خيرية غربية تساعد فقراء العراق، ... الخ، والرسالة التي ينقلها ويرددها هؤلاء تخلط الحق بالباطل، والوسيلة بالغاية، فتقدم أبشع صور الميكافيلية السياسية المعطوف عليها وحشية دموية ليست من أخلاق عرب الجاهلية فضلاً عن أن تنسب لأخلاقيات الإسلام أو تعاليمه في خوض الحروب والمعارك. وتحت إغراء الصورة والوهم بالبطولة تناسل قادة "الجهاد القاعدي الفضائي" العاشقون للظهور على شاشات التلفزة يخطبون في أمة الإسلام ويهددون العالم بالويل والثبور. وبعد كل الخطب الرنانة التي تهدد الولايات المتحدة بالدمار لا يتجسد ذلك "الجهاد الموعود" إلا بالغدر واستهداف المدنيين من الغربيين، وقطع رؤوسهم. وكثير من الغربيين المقيمين في بلاد العرب هم من أكثر المؤيدين للقضايا العربية بكونهم عاشوا بين العرب وفهموهم، أو بكون مجرد قدومهم إلى أرض العرب دليلا على رغبتهم في ترك بلدانهم والعيش بين ظهرانينا. ذكر لي صديق أن أحد الغربيين المغدورين في السعودية كان على ذراعه وشم يحمل اسم فلسطين، أو ما يشير إلى تأييده للقضية الفلسطينية.
ليس هناك أي عذر في تبني سياسات الغدر واستهداف المدنيين وقطع رؤوسهم، والقول إن ذلك هو نفس ما قام به السجانون الأميركيون ضد سجناء أبو غريب قول تافه لا وزن له. ولنا أن ندينه كما أدان ملايين الأميركيين الشرفاء الذين لا ذنب لهم في سياسات دولتهم وحشية حكومتهم في العراق وغيره.
نعيش اليوم كارثة حقيقية هي تصدر هؤلاء الإرهابيين المعاقين سياسياً واستراتيجياً ودينيا واجهة الأحداث، بزعم مواجهة حكوماتهم أو الاحتلال الأميركي. الحكومات العربية لا تستحق أي دفاع عنها، وهي قادتنا إلى الكوارث التي نعيشها. لكن هذا لا يبرر الانخراط في كارثة من نوع أتعس بسبب نقمتنا على الوضع القائم. أسوأ نظام عربي هو أفضل ألف مرة مما تعرضه هذه الجماعات من حلول. وحتى نخفف من "الصدارة" التي يتمتعون بها لابد من تحرك فا