من يعتقد أن في كل ما تأتي به الولايات المتحدة خيراً فهو واهم، وكذلك من يروج لأن كل ما في الدعوات إلى الإصلاح كذب وخداع فهو غير صادق.
يبدو أحيانا أن ما يحدث في العالم هذه الأيام بحاجة إلى مزيد من الأغبياء حتى يقتنعوا ويصدقوا كل ما يقال، وكل ما يحدث وذلك لأن كثيرا مما يتم تداوله وكثيرا مما يحدث لا يمكن أن يمر على أي إنسان عاقل أو يصدقه أي إنسان طبيعي.
مبادرة الشرق الأوسط الكبير الذي ربما العالم العربي بحاجة إلى الأخذ بكل ما يفيد منه وتجاهل ما لا يفيده، واحدة من تلك الأمور التي تحتاج إلى أغبياء كي لا يفهموها ولا يعرفوا حقيقتها. أما الولايات المتحدة فإن من أهم الأمور التي يجب أن تعرفها هو أنه ليس هناك ما يجمع بين موريتانيا وأفغانستان، أو بين أي من دول الخليج وتركيا من ناحية الثقافة واللغة وغيرهما، أما إسرائيل التي تريد أن تدمجها أميركا في المنطقة بأي ثمن فستبقى الجزء السيئ في الشرق الأوسط والشجرة الخبيثة التي زرعها الاستعمار ويلعنها الفلسطينيون ويلعنون من زرعها كل يوم.
لقد تكاثرت علينا مبادرات الإصلاح في السنوات الماضية وينطلق التوجه الدولي المتزايد لطرح أفكار ومبادرات الإصلاح في المنطقة من فرضية واحدة هي إخفاق المنطقة في دفع الإصلاحات المطلوبة، أما بالنسبة للرئيس بوش الذي أطلق مشروع الشرق الأوسط الكبير، فقد جعل منه ركنا أساسيا في معركته ضد الإرهاب، واعتبر أنه يمثل بعد الحرب في أفغانستان والعراق المسار السلمي للتحرك في العمق ضد التطرف، لسنا بحاجة إلى أغبياء جدد كي نعرف أن السياسة الأميركية تشهد تغيرا في رؤيتها للعالم العربي والإسلامي، ويتركز هذا التغير على عزم أميركا التخلي عن سياستها الداعمة للأنظمة الاستبدادية، والأخذ باستراتيجية تعزيز الديمقراطية وتعزيز الحريات والترويج لاقتصاديات السوق.
ولا نحتاج إلى كثير من الأغبياء كي نرى تطورات المنطقة الأخيرة التي تنبئ عن حدوث تغيرات مقبلة لا نعرف تفاصيل تلك التغيرات، ولكن يبدو أن صناع القرار الأميركي قد أدركوا أن المنطقة مقبلة على تحول في خريطتها السياسية ربما خلال عقد أو عقدين من الزمان.
كما أن العالم ليس بحاجة إلى أغبياء جدد كي يفهم أن أميركا باتت تدرك أن الأنظمة العربية الراهنة قد استنفدت طاقتها، وربما ستكون عبئا علي المشروع الأميركي في المنطقة، باعتبار أن صناع القرار الأميركي قد رسموا مخططا مختلفا عن استراتيجية العقود الماضية إبان الحرب الباردة حيث كان شكل ودور النظام العربي ملائما.
بالنسبة للولايات المتحدة قد يكون العالم بحاجة إلى أشخاص فاقدي الذاكرة حتى لا يتذكروا أن "هاس" مدير تخطيط السياسات بوزارة الخارجية الأميركية بعد عام من أحداث الحادي عشر من سبتمبر تكلم بشكل صريح عن الخطط الأميركية لفرض الديمقراطية علي العالم العربي الإسلامي، وعن احتمال فرض الديمقراطية لأجل تلافي أخطار تهدد الأمن الأميركي، ومن الأمور التي تحدث عنها "هاس" وطالب بها الدول هي أن تحارب الدول الفساد، وأن تحترم الحقوق الإنسانية الأساسية، وتطبق حكم القانون. ثم كرر الحديث عن هذه السياسة أكثر من مرة وزير الخارجية "كولن باول"، أما بالنسبة للرئيس الأميركي "جورج بوش" فقد كان هذا الموضوع هو محور خطاباته في نوفمبر الماضي، حيث أنحى باللائمة على سياسة دعم الديكتاتوريات العربية والإسلامية التي تبنتها الولايات المتحدة لستة عقود، واعتبر أنها فشلت في ضمان أمن أميركا، وأعلن عن عزم إدارته على تبني استراتيجية لدعم الديمقراطية في المنطقة، معللا أن الاستبداد مسؤول عن انتشار التطرف الديني والإرهاب.
ليس من قبيل المبالغة ما يردده البعض من أن المشروع يهدف للهيمنة علي الشرق الأوسط لدوافع اقتصادية وعقائدية وأمنية، كما أنه ليس من الغباء أن نقتنع بأن الضمير الأميركي قد صحا فجأة في عهد بوش بعد ستة عقود من التحيز للحكومات كي يقف في صف شعوب المنطقة، ومن الواضح أن الولايات المتحدة تهدف من وراء مبادرتها إلى عدة أمور على رأسها تغيير القاعدة الثقافية لشعوب المنطقة، حيث يربط الأميركان بين المؤسسات والمناهج الدينية والتطرف الديني والإرهاب. وكذلك يسعون إلى فرض قيم ومبادئ الديمقراطية، واقتصاد السوق وفق المفهوم الأميركي كوسيلة للهيمنة علي موارد المنطقة الاقتصادية، وكذلك فسح المجال أمام إسرائيل وتمكينها من المنطقة بأكملها، بالإضافة إلى محاولة مضاعفة الضغط علي الأنظمة، التي تتوجس من أن تؤدي هذه المبادرة إلى زوال حكمها.
ولا نفشي سرا عندما نذكر أن الولايات المتحدة نجحت في فرض الديمقراطية في ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، كما استطاعت أن توقف زحف الشيوعية في فرنسا وإيطاليا في الخمسينيات من القرن الماضي، غير أن لها بالمقابل سجلا حافلا في التصدي للديمقراطية وذلك عندما تتعارض مع مصالحها، وهذا ما فعلته بنظام مصدق الرئيس الإيراني المنتخب عام 1953، والنظام التشيلي المنتخب في السبعينيات، وهذا ما نعرف تماما أنها يمكن أن تقوم به ف