أثرت في مقال سابق الخوف الشديد الذي تبديه النخب العربية الحاكمة من مبادرات الإصلاح الأميركية الأوروبية بالرغم مما تظهره هذه المبادرات من حرص على استقرار النظم العربية وما تبديه من تطمينات لاستمرارها. بل إنها تنطلق أساسا من السعي إلى حمايتها في وجه موجات الغضب والعنف الشعبية التي تعتقد أنها قادمة لا محالة والتي تشكل حركات التطرف الديني المظاهر المعلنة عنها. وفي المقابل ليس هناك شك في أن القسم الأكبر من النخب العربية نفسها أخذت تدرك في السنوات الأخيرة أنه أصبح من الضروري القيام بإصلاحات سريعة لضمان الاستقرار وقطع الطريق على الانفجار والفوضى، وأن مثل هذه الإصلاحات تحتاج إلى موارد مادية وفنية كبيرة لا يمكن توفيرها من دون دعم الدول الصناعية. فلا يمكن إحداث القفزة المطلوبة في مستويات الاستثمار وتحديث هياكل الصناعة والإدارة والتأهيل من دون القيام باستثمارات تتجاوز عشرات مليارات الدولارات بالإضافة إلى الاستثمارات الداخلية.
ربما يعتقد البعض أن رفض هذه المبادرات ناجم عن حرص النظم العربية على قيم السيادة والاستقلال، أو بسبب أسلوب الإملاء الذي اتبعته في البداية الولايات المتحدة. والواقع أن الدول العربية كما ذكرت سابقا لم ترفض المعونات والتدخلات الأجنبية في العديد من الميادين والمناسبات في سبيل إيجاد حلول لمشكلاتها الخاصة. وعلى رأس هذه المشكلات التي استدعت في نظر الحكومات العربية عدم التردد في طلب التدخلات الخارجية، مسألة التوسع الاستيطاني الإسرائيلي وتزايد النزاعات العربية- العربية الداخلية التي وصلت إلى حد إعلان الحرب واحتلال بلدان لبلدان أخرى. ومنها أيضا التدخل من أجل مواجهة المعارضات الداخلية أو حركات التمرد والاحتجاج المسلحة وغير المسلحة التي كرستها مشاركة الدول العربية في الحرب العالمية ضد الإرهاب، وتعاونها بشكل مستمر على مستوى الأجهزة الأمنية مع الدول الصناعية. ومن ينظر فيما حصل في العقدين الماضيين، يتبين إلى أي حد حصلت وحدة حال بين النظم العربية القائمة والتحالف الأوروبي الأميركي في جميع الميادين والسياسات، وأن العالم العربي قد سلم مقاليد أموره أو كاد إلى عواصم هذا التحالف لضمان الحد الأدنى من الاستقرار.
في اعتقادي أن تخوف العديد من النظم العربية من المبادرات الدولية ورفضها النقاش فيها وتمسكها بإظهار العالم العربي على أنه قادر على إنتاج مبادرات إصلاحه الذاتية، وبجهوده الخاصة يعود إلى أمرين رئيسيين. الأول هو خوفها من أن يبدو قبولها بالمبادرات الخارجية أمام الرأي العام وكأنه تخل نهائي عن السيادة وقبول بالوصاية الدولية عليها. والثاني أن النخب العربية الحاكمة أو أكثرها قد اعتاد منذ عقود أن يحكم من دون رقيب ولا حسيب. وقد نجح معظم هذه النخب بالفعل في إخراج المجتمعات كليا من الحياة العمومية السياسية والمدنية معا وفي استبعاد أية رقابة داخلية، حتى تتمكن من التصرف في بلادها تصرف السيد المطلق الذي لا ينازع ولا توضع على إرادته حدود. وها هي الدول الصناعية تريد، تحت غطاء الإصلاح، أن تفرض نفسها على النخب الحاكمة رقيبا وحسيبا خارجيا، بل إنها، أكثر من ذلك، تطلب منها علنا أن تراعي في حكمها وتصرفها بموارد البلاد وشعوبها بعض المعايير السياسية والأخلاقية، على الأقل الشكلية، كشرط لاستمرارها في دعمها في مواجهة المعارضة والحركات الشعبية والتغطية عليها. هذا هو التدخل الذي يثير حفيظة النخب العربية الحاكمة ويؤرقها لأنه يعرض انتصارها اللانهائي والمطلق على مجتمعاتها للخطر، بل يهدد بأن يلغيه عن طريق استبداله بوصاية ورقابة ومقاومة أكثر نجاعة وقوة بما لا يقاس، هي الوصاية والرقابة الدولية على أعمالها الاستثنائية ونمط ممارستها للسلطة التي لا تخضع غالبا لقانون. ولذلك تشعر هذه النخب بالفعل بالقهر ولا ترى في مبادرات الإصلاح الأميركية والأوروبية التي تشكل في جوهرها تغييرا في السياسات الدولية تجاه العالم العربي الذي تم تجاهله تماما في العقود الماضية لصالح إسرائيل إلا محاولات لتركيعها وللانتقاص من سيادتها الحقيقية وليس من السيادة الوطنية التي لم يعد لها من شروط الوجود حتى الاسم.
ليس إنشاء مصارف للتنمية ممولة من الدول الصناعية، ولا تقديم المعونة الفنية والعلمية، ولا حتى تقديم المستشارين السياسيين والعسكريين والأمنيين، ولا إنشاء المعاهد والجامعات التي تدرّس باللغات الأجنبية، هو الذي يبدو صعب الاحتمال ومهددا للهوية والشخصية الوطنية في نظر النظم بالتأكيد. بل إن النظم تعرف أن مشاريعها الإصلاحية الخاصة إذا وجدت لا يمكن تحقيقها من دون الدعم الدولي وبالشروط ذاتها التي تعرضها مبادرات الإصلاح القائمة إن لم يكن بشروط أقسى منها. إن ما يبدو صعب الاحتمال عليها، بل كارثة سياسية هو ربط الإصلاحات الاقتصادية والإدارية والتعليمية والتقنية والفنية بإصلاحات سياسية، أي في الواقع أن تجبر على أن تخضع حكمها وسلوكها تجاه شعوبها لقواعد وقوانين وقيم سياسية وأخلاقية وقانونية واضحة وم