منذ وصل شارون إلى سدة الحكم في إسرائيل لأول مرة في عام 2001، ذهب معظم المتخصصين في إسرائيل وصراعها مع العرب إلى أن مجرم حرب مثله وحزباً كالذي ينتمي إليه وائتلافاًً كالذي يقوده لا يمكن أن يصنعوا سلاماً، ناهيك عن أن المجتمع الإسرائيلي برمته ما يزال يراوح بين حلم السلام مع العرب ووهم فرض الهيمنة عليهم. وكان من شأن هذا الاستنتاج العلمي المبكر أن يشكل إطاراً لرؤية استراتيجية عربية، تحكم التعامل مع شارون والضغوط الأميركية التي تدفع باتجاه التعاون معه، وطُرح منذ ذلك الوقت أن الاستراتيجية المُثلى لهذا التعامل هي مقاطعة السفه الذي يطرحه شارون من حين لآخر، باعتباره جهداً مخلصاً للتسوية طالما أن ذلك السفه لا يمكن له أن يقترب من الحد الأدنى الممكن تصوره للمطالب الفلسطينية، والتمسك بأن الشرط العربي الوحيد للتعامل معه هو أن يقدم عرضاً جاداً للتسوية يستجيب لذلك الحد الأدنى على الأقل.
لكن السياسات العملية كثيراً ما تكون لها حساباتها المختلفة التي استفادت من حجج معدة سلفاً ترى أن المقاطعة سلوك غير حضاري، وأن الحوار مطلوب أبداً بغض النظر عن أي شيء، وأنه بات اللغة الوحيدة التي يمكن فهمها في هذا العصر مع أن الآخر لم يعد يحاورنا تقريباً إلا بالقوة، وهكذا راح عدد من النظم العربية يتفاعل مع أي تحرك لشارون مهما بلغ من عدم الجدية مبلغاً، وارتبط بإعمال مفرط ووحشي للقوة إزاء شعب فلسطين، وفي كل مرة عجزت "التفاعلات" مع حكومة شارون عن أن تحقق خطوة واحدة إلى الأمام في عملية التسوية دون أن يتعلم أحد شيئاً من دروس تلك "التفاعلات" يطبقه على تحركاته التالية، وهكذا أخذت دوائر الفعل الإسرائيلي تتوالى وردود الأفعال العربية تلهث وراءها دون أن يفكر أحد في لحظة للمراجعة.
ثم خرج علينا شارون بمبادرة الانسحاب من طرف واحد من غزة، وبدا الأمر مستحقاً لوقفة فهم وتأمل، لأن خبرة حركات التحرر الوطني المعاصرة تفيدنا بضرورة التوقف من حين لآخر لدراسة ما يطرأ من تغير على سلوك المستعمِر (بكسر الميم) لعل وطأة عمليات المقاومة الوطنية المضادة لوجوده تكون قد بدأت تؤتي أكلها، ويظهر إمعان النظر في التغير الذي طرأ على سلوك شارون أنه اضطر إلى مبادرته لعجزه الفادح - ومن قَبْله أسلافه- عن القضاء على المقاومة، والصمود الأسطوريين لأهل غزة حتى باتت تسبب منذ زمن صداعاً مزمناً في الرأس الإسرائيلي. لكن ثمة ملاحظتين ضروريتين على هذا التغير، أولاهما أنه من الواضح أن الإحساس بقوة مبرراته ليس بعد مسألة إجماع في إسرائيل، بل هو ليس كذلك داخل مجلس وزراء شارون نفسه، وثانيتهما أن الأخير -كأي قيادة إسرائيلية تعامل العرب معها- شاء أن يعطي مبادرته طابعاً تكتيكياً، بمعنى أن يعمل لسياسته كأنه تارك غزة غداً، فإذا استمرت وتيرة التصاعد المقلق في المقاومة الفلسطينية أصبحت مبررات تحركه واضحة للجميع حائزة على موافقتهم وأسرع بالخروج، وإن نجح في أن يشق الصف الفلسطيني والعربي، ويهدئ من ثم من حدة المقاومة ووطأتها عليه استطاع بذلك أن يعطي مبادرته مذاقاً آخر من خلال شيطان التفاصيل: ماذا نترك وماذا نبقي؟ متى ننسحب؟ ما هي الضمانات المطلوبة؟...الخ.
لم ينجح شارون بصفة عامة في شق الصف الفلسطيني حتى الآن، لكن الوضع اختلف في السياق العربي، فقد وجد شارون من هم على استعداد للتعاون معه في تنفيذ مبادرته. كان منطق من انتهوا إلى قرار التعاون مع شارون هو أن أي انسحاب إسرائيلي من أية أراض محتلة خير، ولذلك لابد من تشجيعه على المضي قدماً فيه، وهو منطق يحتاج إلى وقفة لمناقشته لأنه ليس من السهولة بمكان القطع بخطئه أو صوابه.
والواقع أن كافة خبرات الانسحاب الإسرائيلي من أراض عربية دون استثناء قد تمت بعد إعمالٍ للقوة العربية ضد إسرائيل: الانسحاب من سيناء بعد احتلالها في 1967- الانسحاب من لبنان بعد غزوها في 1982- الانسحاب من الشريط الحدودي في الجنوب اللبناني الذي بقي محتلاً منذ 1978. في الحالة الأولى كانت حرب أكتوبر 1973 ومن قبلها حرب الاستنزاف، وفي الحالتين الأخريين تكفلت المقاومة الشعبية للاحتلال بالمهمة، وإذا كانت لغة القوة وحدها قد تحدثت في الحالة اللبنانية -بمعنى أن المحتل قد أُجبر على الخروج من الأراضي التي يحتلها دون مفاوضات- فإن الدبلوماسية ساندت القوة في الحالة المصرية، بمعنى أن حرب أكتوبر 1973 قد حررت جزءاً من الأرض، وتكفلت الدبلوماسية بالباقي وفق معادلة قدمت فيها الدبلوماسية المصرية تنازلات أمنية وسياسية مقابل التنازل الإسرائيلي الاستراتيجي المتمثل في إخلاء سيناء بالكامل.
يعني ما سبق أن الافتراض قائم بأنه إذا كانت المقاومة في غزة قد أجبرت شارون على أخذ فكرة الانسحاب منها على محمل الجد فإن تطوير هذا الإنجاز بالدبلوماسية ممكن، غير أن لهذا شروطه بطبيعة الحال، فلا يمكن أولاً على الصعيد السياسي أن يُقبل منطق إخلاء إسرائيل لغزة من أجل التفرغ لاستكمال استعمار الضفة، أو قبول التعاون معها في الوقت الذي تستمر فيه أعمالها