يقول فيلسوف من رفاق الثائر الأسطورة غيفارا:"يمكنك أن تستورد كل شيء وكل أنواع الخبرات، مهندسين، أطباء، صيارفة، وسطاء، وتجار رقيق ولكنك لا تستطيع أبداً استيراد إعلامي واحد قادر على النطق بكلمة واحدة تحمل روح الثورة أو طعم الطين ورائحة دم الشهداء وتعبر عن ضمير المسحوقين كلمات منسوجة بلون علم الوطن".
تذكرت مقولة هذا الفيلسوف واستدعيتها من الذاكرة وأنا أتابع فقرة ساخرة من برنامج يضج بالنقد الساخر من على قناة عراقية وليدة تدعى "الشرقية".
في نهاية تقرير إخباري نطق المذيع جملته الأخيرة مستلهماً إياها من مقولة هذا الفيلسوف مؤكداً أنه يمكن استيراد أي شيء للتعجيل بتحويل المجتمع العراقي إلى مجتمع يمكن أن يعيش فيه بشر، ولكنه لا يمكن استيراد إعلاميين للحديث والتعبير عن معاناة الإنسان العراقي اليومية. فكيف يتمكن مذيع أو مقدم برامج غير عراقي من رصد نبض الشارع، وتقديم صورة عن معاناة البشر اليومية في وطن استبيح فيه كل شيء، أرضه وماؤه وسحب سمائه، وطن ذبح من الوريد إلى الوريد بعد أن جف دم وريده في عهد الطاغية. كان المذيع يقدم بتهكم مر وحسرة جارحة بعضاً من نتف الصورة في إطارها الإعلامي، حيث ظهرت في سماء الوجود الإعلامي العراقي محطات تلفزيونية وصحف لا يعمل بها إعلامي عراقي واحد، ويهيمن عليها هواة استولوا على الشاشة أو الحرف بحكم شطارة البيع والشراء والهيمنة الأميركية التي منحتهم سطوة السيطرة على الرسالة الإعلامية، وتقديم المبدع العراقي في المجال الإعلامي على أنه فاقد للأهلية، غير قادر على نسج مفردات خطاب إعلامي مؤثر وفعال، وكتابة قصيدة أو رسم لوحة تتمازج ألوانها مع الدم والقهر والموت اليومي على الأرصفة، أو على أسرّة مستشفيات يعز عليها تقديم حقنة أو قطرة مطهر لجرح عراقي سيبقى نازفاً إلى أن ترتفع قامة المارد العراقي الإنسان، وتكون جبهته في مواجهة شمس الحقيقة.
استفزني المذيع بجملته السابقة كما استفزني برنامجه الساخر، وامتلكتني حباً تجربة مشاهدة برامج هذه القناة الوليدة، الأمر الذي جعلني أخصص بعضاً من وقتي لمتابعة ما يمكن أن يقوله الخطاب الإعلامي المتلفز لهذه القناة. ولغرض المقارنة والتدليل والرصد والتحليل، تابعت قناة فضائية عراقية أخرى لأكتشف أن السماء العراقية حبلى بعدد لا يمكن أن نعرفه من محطات البث الباحثة عن مشاهد تسوق له بعضاً من حلم وكثيراً من وهم، فكل من كان قادراً على استثمار مبلغ قد يقل قليلاً أو يزيد على ثلاثة ملايين دولار، يمكنه وبواسطة عدد محدود من الفنيين وبضع مذيعات عربيات فاتنات، وعشرة أفلام عربية قديمة صوّرت بالأسود والأبيض وانتهكت حقوقها الفكرية، وبرنامج مسابقات مسروق من قناة عالمية وعدد من خطوط الهاتف، أقول يمكن لأي مغامر من تجار سوق (الشورجة أو باب الشرقي أو سوق الصفافير)، أن يدشن قناته الفضائية التي تنطق باسمه ولا يعمل فيها عراقي واحد، بينما تقدم بعضاً مما سرق من مكتبة تلفزيون بغداد، حيث يمكن أن تسمع فيها مقاطع من الجالغي البغدادي، أو أغاني وحيدة خليل، أو تسجيلات نادرة لناظم الغزالي. ولكن المحزن في هذه القنوات أنك لن تشاهد فيها العراق، أو نبض الوجع اليومي أو نشيداً لحنجرة مجروحة تصيح، ونياط القلب مقطعة (أحن إلى خبز أمي)، وترى أمامك أماً عراقية تنبش بعضاً من قبر جماعي وهي تلطم خداً وتشق ثوباً وتدفع رغيفها في تنور أمام باب المنزل. المحزن في هذه القنوات التي تستورد مذيعاتها وكتّاب نشرات أخبارها وصناع برامجها، أنك لن ترى فيها دجلة الخير غير أنه مجرى مائي ينبع ويصب دون أن يمر في أوردة صبية عراقية، أو تتحول قطراته إلى كلمات عذبة قالها الجواهري، أو اختلط ماؤه مع الطين ليتسرب في ضمير بدر شاكر السياب، أو نازك الملائكة أو تتزين به ريشة جواد سليم، وتكون للطين وإبداعات جواد سليم معاني جديدة لقدرة هذا العراقي على منح الجماد مشاعر وأحاسيس.
لن تتمكن قناة فضائية عراقية تستورد مذيعاتها تقليداً للموضة السائدة باعتبارهن طعماً حسياً لاصطياد رجال، يتوقع أنهم مسكونون بهواجس الإثارة والاشتهاء، ونساء لا يبكين على ولد قتل في كربلاء أو البصرة أو ذوب بالحامض في حلبجة، ولكنهن نساء يبحثن عن آخر مسحوق للتجميل وأصابع "روج" لا أصابع ديناميت ومناشف ملطخة بدماء الأبناء والروح المكسورة.
على شاشة "الشرقية" التي أصرت على أن تكون عراقية صرفة، كاميراتها تدور في الأزقة التي تتكدس فيها أطنان من النفايات، والبيوت التي تبنيها سواعد عراقية من أجل مستقبل لأطفال يحملون كتبهم إلى المدرسة. تعترف "الشرقية" أنها من نبت الشارع. تستمد طاقة فعلها النقدي من وهج المقل، وصرير الأضلع التي تكسرت فوق حقيقة صمودها حقائق هزيمة العراقي الصانع للأمل. على شاشة "الشرقية" يتجسد العراقي الأمل والعراقية الحبلى دائماً بالوعد، وتنطق الكاميرات لغة لم يعتدها المشاهد العراقي، ولم يألف مفرداتها المشاهد العربي الذي أسلمته موضة التحول إلى مذيعات لا يعرفن موضع الكسرة، ويحرن بين موضع الضمة،