يروق للناس أن يستشهدوا بتعليق كارل ماركس على الإمبراطوريتين النابليونيتين المتعاقبتين، الأولى التي أسسها نابليون بونابرت نفسه والإمبراطورية الثانية التي أسسها من بعده ابن أخيه نابليون الثالث بعد عام 1848. وقال ماركس إن تلك مأساة تتكرر على شكل مهزلة. لكن الولايات المتحدة عكست الآية، بحيث إن الأمة - أو الكونغرس ووسائل الإعلام على الأقل- كانت مهووسة بتعريف بيل كلينتون لما يصل أو لا يصل إلى علاقة جنسية مع متدربة مقيمة في البيت الأبيض.
والمأساة التي تبعت المهزلة هي أن التعذيب إحدى أدوات السياسة القومية الأميركية (في قضية نشر الديمقراطية).
وتكشف الوثائق التي حصلت عليها الصحافة في الآونة الأخيرة عن قلق البيت الأبيض حيال كيفية حماية الرئيس جورج دبليو بوش وأعضاء حكومته، من دخول السجن كعقاب لقاء إصدار الأوامر أو الموافقة على، أو السماح عمداً بالتعذيب المنظم للسجناء الخاضعين لسيطرة بوش وحكومته، لكن الواقعين لظروف خاصة، خارج نطاق الصلاحيات القانونية الأميركية الرسمية. وكان السؤال المطروح على المحامين هو: كيف أمكن للرئيس وأولئك الآخرين أن يرتكبوا جرائم حرب مع الإفلات من العقاب؟.
هكذا، ووفقاً لتلك التقارير، حصل الرئيس بوش في العام الماضي من محاميه على رأي مفاده أنه كرئيس، غير ملزم بالقوانين الأميركية أو التعهدات الدولية التي تحظر ممارسة التعذيب، وأن الأميركيين الذين يمارسون التعذيب تحت سلطته لا يمكن لوزارة العدل أن تقاضيهم.
ذلك الرأي مفاده أن اعتبارات الأمن القومي تتجاوز وتلغي القانون الأميركي والمعاهدات الدولية. وعلى حد قول المحامين العسكريين المشاركين في هذه المناقشات، كان ذلك تأكيداً لـ"السلطة الرئاسية في ذروتها المطلقة". فتلك السلطة تتجاوز متعمدةًً تلك المعايير التي تَدَرّب الجيش على احترامها بحسب توصيات اتفاقيات جنيف. والعالم يعلم الآن كيف يكون التجاوز في القمة تجاوزاً لكل ذلك على طول الخط.
ودأب المدنيون في إدارة بوش على التذمر من كيفية التداخل بين تلك الاتفاقيات- المعاهدات الدولية ومعايير الجيش والمحظورات المفروضة عليه، وعزم أولئك المدنيين على اعتقال أي شخص يشاءون واحتجازه في سجون سرية، وإعلان عدم تمتعه بأية حقوق قانونية حتى لو كان من المواطنين الأميركيين، ثم تعذيبه متى شاءوا، والاحتفاظ به إلى الأبد إذا شاءوا. (ومن الواضح أنه طموح على مذهب الديكتاتورية والاستبداد). لقد أراد هؤلاء إزالة تلك العقبات من أمامهم.
وتبدو تذمرات هؤلاء شبيهة بتذمرات أدولف إيخمان عندما قدم في إسرائيل أثناء محاكمته وصفاً للعقبات القانونية والبيروقراطية والإدارية المزعجة التي اصطدم بها في ألمانيا زمن الحرب لدى قيامه بتنفيذ مسؤولياته في عمليات الإبادة العرقية.
وتلكأ كبار الشخصيات في الإدارة الأميركية (وبكل سرور) حيال ما كان بالضبط ينبغي فعله بالسجناء أصحاب الحظ السيئ- أي بشأن طول فترة احتجازهم ووضعهم ونوعية الألم الذي يجب صبه عليهم. (كانت هناك أيضاً مشكلة ما ينبغي فعله عندما تسير الأمور على نحو غير ملائم وتتسبب عمليات التعذيب في موت شخص ما أو امرأة على أيديهم – ويبدو أن هناك امرأة تعرضت أيضاً للتعذيب).
وعندما بدأ هذا كله ينفضح، ماذا كان على الإدارة الأميركية أن تفعل؟ الرئيس قال يوم 24 مايو إن "عدداً قليلاً من الجنود الأميركيين...لم يحترموا قيمنا". أمّا المسؤولون المدنيون في البنتاغون فعمدوا، في سياق أحاديثهم غير الرسمية إلى الصحافة، إلى إلقاء المسؤولية عن فضائح سجن أبو غريب على "قلّة من الجهلة".
وتصادف أن يتولى إدارة وتخطيط العملية الأميركية في العراق، وفي أفغانستان، أشخاص لا يمتلكون أية معرفة ذات شأن بهذين البلدين ومجتمعيهما. واستمتعت الإدارة الأميركية بتنفيذ الاعتقالات والاستجوابات الجماعية التي شملت الناس على نحو عشوائي، لأنها لا تعلم ماذا تفعل غير ذلك لكي تكتشف ما يجري في جهة المقاومة.
وكان ذلك عبثياً غير منطقي وبلا طائل، بل وشريراً أيضاً. فانعدام الفائدة العام في التعذيب أمر معروف جيداً في الدوائر الاستخباراتية والحربية الخاصة. وحتى إذا كانت لديك شخصية رئيسية (من الرجال أو النساء) تمتلك معلومات مفيدة، وأرغمتها على إخبارك بما تريده أنت، فما الفائدة الحقيقية من ذلك؟ هل ستكون المعلومات صحيحة حقاً؟ أم أنها ليست سوى المعلومات التي أوصلها الجلاد عن غير قصد إلى الضحية والتي يريد هو أن يسمعها منها؟ وحتى إذا كانت المعلومات صحيحة، فهل ستبقى مفيدة بعد ذلك؟
إن كل تنظيم من التنظيمات السرية أو تنظيمات المقاومة يعمل بنظام الإقصاء أو العزل الذي يضع حداً لما يعرفه أحد الأفراد، كما يطلق إلى كل الآخرين إشارة تعني أمراً بالتفرق عندما يصبح أحد الأفراد سجيناً. وليس من الضروري أن تكون شبكة ما ذات تنظيم لكي تفعل ذلك. فأية عصبة من المتمردين المسلحين في العراق تعلم ضرورة عدم انتظار أفرادها وبقائهم في أماكنهم عندما يتم اعتقال أحدهم. وتبين أن الغال