يظن البعض خطأ أن المواقف المتطرفة التي تتخذها الإدارة الأميركية الحالية مؤقتة، وأن سلوكها المخالف للمجتمع الدولي، وتصرفاتها التي تناقض كل التوقعات، وتعكس ميول التصرف الانفرادي واللامبالاة، هي أشياء ستزول بزوال إدارة بوش الصغير غير مأسوف عليها. ولكن من دون تشاؤم أو تفاؤل أود أن أؤكد على أن هذا السلوك له بعده التاريخي وتأثيره المعاصر ومن ثم ستكون له تداعيات في المستقبل. وحتى نفهم صحة هذه النتيجة يجب أن نتعرف على "بروتوكولات حكماء واشنطن".
في البداية أود أن أوضح أن الهدف الاستراتيجي أو الغاية العليا من تنفيذ هذه البروتوكولات هو "إقامة حكومة أميركية عالمية للكون"، من خلال طرح خطة استراتيجية متوسطة المدى تضمن تشكيل العالم الذي تريده واشنطن وليس العالم الذي قد يتغير بمرور الزمن ويقبل بحكمها، وذلك حتى تستطيع السيطرة من خلاله على ثروات الكرة الأرضية الطبيعية والصناعية، وتفرض إرادتها على من تشاء وقتما تشاء، أي إن البروتوكولات برنامج عمل إيجابي متكامل ينطلق من مبادئ أحادية التوجه وأسس أيديولوجية خاصة بحكماء واشنطن، ولا يهم بعد ذلك قيام إمبراطورية أميركية أو غيره.
كانت البداية مع خروج الولايات المتحدة الأميركية منتصرة في حربها الباردة مع الاتحاد السوفييتي، وشعورها العميق بأنها حققت هذا النصر منفردة ومن دون حاجة إلى حلفاء أو أصدقاء، وسرعان ما اختطف أصحاب البروتوكولات من الصقور مواقع القرار في الإدارات الأميركية المتعاقبة تحت زعم قدرتهم على صنع العالم الذي تنشده واشنطن، والذي سيحافظ على النصر الأميركي المنفرد بعد حقبة الحرب الباردة، ويقضي على أي قوى تفكر في منافسة الهيمنة الأميركية وسطوتها، لذلك فرضوا برنامجهم على العالم. وفور تولي بوش الصغير مسؤولية الحكم في البيت الأبيض أضحت هذه البروتوكولات سياسة واقعية معلنة للإدارة الأميركية في كل مناحي الحياة على كوكب الأرض.
كانت البداية الحقيقية لتنفيذ البروتوكولات تكمن في صياغة البروتوكول الأول الذي ركز على صناعة التهديدات العالمية وأمركتها، حيث كانت أحداث 11 سبتمبر 2001 والمبالغة في تصوير التطرف والإرهاب ومدى تهديدهما للأمن الأميركي المباشر السبب الرئيس في طرح الإرهاب الدولي ودول محور الشر كتهديدات عالمية تملك أميركا وحدها قدرات مواجهتها وعلى العالم أن يحدد موقفه، إما أن يكون مع أميركا أو ضدها. لذلك جاء البروتوكول الثاني لحكماء واشنطن في أمركة معادلة الأمن العالمي، وتطلب ذلك إلغاءها للحدود الوطنية والتحول من احترام سيادة الدول إلى حق التدخل والغزو في أي وقت لاعتبارات تراها واشنطن وحدها، وحظر امتلاك الأعداء لأسلحة دمار شامل مع غض الطرف عن امتلاك الأصدقاء لمثل هذه الأسلحة.
وترتب على البروتوكول الثاني صدور الثالث، وهو أمركة القوة العسكرية العالمية من خلال تبني استراتيجية الضربة الاستباقية التي تتيح استخدام الآلة العسكرية وأجهزة الاستخبارات الأميركية ضد أي تحد أو تهديد تراه واشنطن، ومن ثم تصبح الإدارة الأميركية القاضي والجلاد في آن واحد، بينما يُسمح لها بالقضاء على جميع الخصوم وتنصيب حكومتها العالمية، وما تراه من حكم لا يقبل النقض أو الاستئناف أو الطعن وعلى المتضرر أن يغادر كوكب الأرض. وقد تمت ترجمة التفوق العسكري التقني الأميركي في ميدان المعركة إلى هالة لا تقهر، لذلك فليست هناك حاجة سياسية واقتصادية للالتفات إلى وجهات نظر أخرى وأخذها بعين الاعتبار.
أما البروتوكول الرابع فهو يهدف إلى أمركة السياسة الدولية، من خلال فرض السيطرة الأميركية الكاملة على المنظمة الدولية وأجهزتها ومؤسساتها، وإذا لم يتحقق ذلك يتم تهميشها أو حتى إلغاؤها، لأن حكماء واشنطن يعتبرون أن السياسة الواقعية الجماعية قد فشلت في دفع العالم إلى قبول أفكار وقيم النظام السياسي الأميركي. وبالتالي يجب أن يفهم العالم اليوم أنه لا توجد مساواة في العلاقات بين الدول، ولا يوجد ما يسمى بالشراكة الاستراتيجية والمنفعة المتبادلة بين الدول. فمصلحة واشنطن فوق الجميع، كما يجب التعامل مع القضايا الإقليمية والدولية وفق وجهة النظر الأميركية ووفق إرادتها الكونية الحرة، ولا يهم أميركا استقطاب الآخرين إلى صفها طالما تستطيع أن تفرض عليهم ما تريد ولا يهمها نزعات العداء الشعبي العام، لأنه في النهاية سينظر الجميع من المنظور الأميركي ومن ثم سيتفهمون مواقفها وسلوكها، وفي الوقت نفسه لا تهم شرعية السياسة الأميركية في عيون الآخرين، لأن موضوع الشرعية سيصبح نسبياً عندما تتولى الحكومة الأميركية مهامها العالمية.
وحتى يتحقق البروتوكول الرابع يجب تنفيذ البروتوكول الخامس الذي يهدف إلى إجراء تغييرات جذرية في السياسة الداخلية لكل دول العالم، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، لأنها بؤرة التهديد العالمي ووكر التطرف الإسلامي وكهف الجهل المدقع. لذلك يترتب على دول الشرق الأوسط القبول طواعية أو قهراً بصيحات الإصلاح التي تطلقها الإدارة الأميركية من دون مناقشة لتطبيق ال