ما يزال المعلقون السياسيون العرب منهمكين في إبداء الملاحظات على المشروع الشرق أوسطي الذي صدر عن قمة الدول الثماني بسي آيلاند بالولايات المتحدة الأميركية. ومآخذُ العرب كثيرة عليه، كما أن الاهتمام بالتعليق والنقد له مسوّغاتُه التي لا يمكن بأي حال التهوين من شأنها. بيد أن للأمر وجهاً آخر يستحق التعليق أيضاً.
أما مآخذُ المعلقين العرب فيمكن إجمالها بما يلي:
أولاً: إن المشروع/البرنامج أميركي/أوروبي، وما شارك فيه أهل المنطقة المقصودة أو المستهدفة به بأي شيء. فحتى تركيا المتحمسة كجزء من حماسها للدخول في السوق الأوروبية، وللحصول على المساعدة، وباعتبارها النموذج الإسلامي المقبول، ما كان لها شيء كبير في الصياغة أو في تفاصيل المقترحات. وفي نظر المعلقين العرب فإن لهذه التسوية ميزاتها ومشكلاتها. والميزات تنحصر في تراجع الولايات المتحدة عن التهديد باستخدام القوة للتغيير. أما المشكلات فتتعدد ومن ضمنها دخول أوروبا في الضغوط، والمبادلة بين العراق وفلسطين، والتسليم بالمقولة الأميركية حول الأولويات بحيث ما يزال الإصلاح متقدماً على السلام العادل والشامل.
وثانياً: إن البيان/البرنامج يتحدث عن التزام وشراكة. والالتزام من جانب الأميركيين والأوروبيين واليابان عملياً. بيد أن مرجعيات هذا الالتزام ليست واضحة. فالبيان يتحدث في مقدمته عن الموروث الحضاري الإسلامي، وعن تقارير التنمية الإنسانية العربية، وعن وثائق الأسكندرية وصنعاء. بيد أن الأفكار المطروحة أو الخطط المطروحة للتنفيذ، وإن بدت تفصيلية ودقيقة، لا علاقة لها في الحقيقة بالمرجعيات والأدبيات المذكورة في الديباجة. ثم إن الخطة تعرض شراكة على الحكومات الشرق أوسطية ومجتمعاتها المدنية، وفي أمور تبدو صغيرة وتفصيلية، إذا استثنينا مسألة خريطة الطريق (الميتة فعلاً)، والمعهود بها للجنة الرباعية على أي حال، وليس للأطراف العربية. فالالتزام أميركي/أوروبي، والشراكة أميركية/أوروبية، والشرق أوسطيون مطلوب منهم الاستجابة فقط.
وثالثاً: إن البيان يتوجه للحكومات الشرق أوسطية (العربية) طالباً الاستجابة والتعاون. لكنه ما يلبث أن ينصرف للحديث عن المجتمع المدني العربي ومؤسساته وجهاته ومطالبه النوعية، ويعرض أيضاً على ذاك المجتمع مساعدة مادية مبلغها الأول مئة مليون دولار. وهكذا فهناك نوع من التهديد المبطّن للحكومات بأنها إن لم تستجب، فهناك جهات أخرى مستعدة للاستجابة والدخول في "الشراكة" مع أصحاب المشروع والخطة.
ورابعاً: إن البنود التفصيلية للخطة تركز على مسائل فرعية بعد المقدمة الطموحة، والمسائل الكبرى، في حين أن ما جرى في المنطقة وعليها في السنوات الأخيرة، وعلى يد الولايات المتحدة، يجعل المسائل تبدو بالنسبة للعرب على الخصوص في ضوء آخر. فبعد تخريب العراق وفلسطين، يقال لنا إن المشكلة في الظلم الواقع بالمرأة، وفي عدم رعاية حقوق الإنسان، وفي البنى الاجتماعية والسياسية المتجمدة، بينما الواقع أن هناك تخريباً مباشراً الأميركيون مسؤولون عنه، وهناك تخريبٌ غير مباشر مستمر لعقود يشارك الأوروبيون الأميركيين وغيرهم في المسؤولية عنه، ثم يقال لنا: مشكلاتكم آتية من عندكم، وهذه مئة مليون دولار لتشجيع مجتمعاتكم المدنية على مكافحة التطرف والإرهاب، والاندفاع نحو الديمقراطية!
هذا مجمل ملاحظات المثقفين والسياسيين العرب على الخطة الأميركية/الأوروبية للإصلاح في الشرق الأوسط الأوسع وشمال إفريقيا. وهي ملاحظات تدل - كما سبق القول- على الاهتمام والعناية، وقد تكون في مجملها صحيحة أو أن النص المعلن للخطة الشرق أوسطية يتحملها، ولي رأي في المنطق الداخلي للخطة لا يوافقني عليه من تناقشتُ معهم فيه. فرأيي أن الاهتمام بالسلام العادل والشامل ليس تفصيلياً أو لذرّ الرماد في العيون. ولا يرجع ذلك إلى أن الأوروبيين ضغطوا، أو أن الأميركيين اهتدوا للصواب. بل إن تجربتهم في العراق، واندفاعهم مع شارون خلال الأعوام الماضية، كل ذلك أفضى إلى تكوين قناعات أخرى لطرائق معالجة المشكلات المتصلة بوجودهم ومصالحهم بالمنطقة. ولذلك فقد يكون اهتمامهم بالانسحاب التدريجي من العراق، وبالعودة للمفاوضات في فلسطين، حقيقياً وليس لتمرير الانتخابات الرئاسية الأميركية. إذ إنهم ما حققوا تقدماً ملموساً في مكافحة الإرهاب، ولا في السيطرة على أفغانستان والعراق، ولا في تحويل عواطف واتجاهات الرأي العامّ العربي والإسلامي. وعندنا في المنطقة اليوم، بل ومنذ الهجوم على العراق، ثلثا الجيش الأميركي المقاتل، وما تزال المنطقة تغلي، أو أنها تغلي لوجود الأميركيين الكثيف فيها. وهذا يعني أن التحول عن لهجة القوة إلى صيغ المحاسنة والمحاورة ومع الحكومات والمجتمعات، قد يكون سببه الإحساس بعدم جدوى القوة في معالجة المشكلات. ونحن نعلم أنّ "الصامدين" في وجه الأميركيين وضغوطهم، ليس ابن لادن والسلفية الجهادية وجماعة الزرقاوي... وشركاه، فحسب. بل بالدرجة الأولى الحكومات العربية التي انحنت للعاصفة، ثم عاد عود