كانت تركيا في أثناء الحرب الباردة عضواً استراتيجياً في حلف الناتو. ذلك أن موقعها الجغرافي في الزاوية الجنوبية الشرقية من أوروبا وفّر حاجزاً حيوياً حمى البحر الأبيض المتوسط من عدوان سوفييتي محتمل. وكنتيجة لذلك، تسنّى لتركيا الحصول على مساعدات أميركية عسكرية وفيرة، كما قللّت كل من الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا من قلقهما الواضح ومخاوفهما حيال سياسات تركيا الداخلية، بما في ذلك التدخل الدائم للجيش التركي في شؤون الحكومة المدنية والطريقة المؤسفة التي عاملت بها تركيا الأقلية الكردية.
وبنهاية الحرب الباردة، تحققت أيضاً نهاية للورقة الجغرافية الأهم بيد تركيا. فالآن، ليس المهم هو "أين تقع تركيا"، بل المهم هو "ماهيتها". وتجري الآن المناداة بتركيا كأفضل مثال لبلد إسلامي علماني وديمقراطي ويدعم اقتصاديات السوق. لكن الأتراك في أية حال لا يشعرون بالسعادة حيال النظر إليهم كنموذج للغير، ولاسيما عندما يجري تطبيق النموذج على الشرق الأوسط العربي.
فإمبراطورية الأتراك العثمانية احتلت شبه الجزيرة العربية لفترة مئات من السنين، وتسنى للقومية العربية القيام بأول تحركاتها وصحوتها ضد القمع العثماني. ولا يصحّ هنا أي إيحاء مفاده بأن العالم العربي لابد له من أن يحذو حذو تركيا. وعلى رغم ذلك، يمكن لتركيا أن تكون- وهي ستكون بالتأكيد- جسراً مهماً بين العالم العربي وبلدان العالم الإسلامي الأخرى والغرب، ولا سيما إذا انضمت بنجاح إلى الاتحاد الأوروبي. ولهذا صارت هناك أهمية قصوى للقرار الذي من المنتظر أن يتخذه الاتحاد الأوروبي في شهر ديسمبر المقبل بشأن إعطاء تركيا موعداً محدداً لبدء المفاوضات حول انضمامها إلى عضوية الاتحاد الأوروبي. وفي الوقت الراهن، تتوحد كل المجموعات الرئيسية في تركيا حول أملها وتوقعاتها بأن يكون ذلك الموعد قريباً. وإذا تحقق ذلك، فإنه يبشّر بوضع تركيا في موقع أقوى بكثير في مواجهة أوضاعها الداخلية وفي المنطقة بين جيرانها. ويعني ذلك على سبيل المثال أنه سيكون من الأسهل بكثير على تركيا أن تجتذب الرأسمال الأجنبي الخارجي إذا تم النظر في طلب انضمامها إلى عضوية الاتحاد الأوروبي.
وهناك في أي حال بعض الإشارات المؤسفة، ولا سيما في فرنسا وألمانيا، التي توحي بأن هناك نكسة قيد التشكل الآن ومن الممكن أن تعيق طلب تركيا الانضمام إلى عضوية الاتحاد. وهذه المواقف السلبية تتعرض لمواجهة قوية من الحكومات التي تدرك كلها أن رفض تركيا في هذه المرحلة من الممكن أن تكون له عواقب كارثية، ليس فقط على تركيا بل على أوروبا أيضاً. وفي ما يتعلق بتركيا، من شأن ذلك الرفض أن يعني تحطيم الإجماع الوطني وخلق انقسامات سياسية من الممكن أن تُضعف تركيا في هذا الوقت الذي ينبغي أن تكون فيه قوية. ومن الممكن أن يؤدي ذلك إلى الشعور بالمرارة التي من الممكن لها أن تسمّم علاقات تركيا مع الغرب وأن تضع نهاية لكونها جسراً – ناهيك عن كونها نموذجاً- للعالم الإسلامي. والعواقب بطبيعة الحال من شأنها أن تمتد دائرتها لتشمل أوروبا نفسها، حيث أصبحت المسألة المعنية بالتعامل مع تزايد عدد سكانها المسلمين أحد أهم البنود على الإطلاق في الأجندة السياسية.
أمّا فيما يتعلق بالولايات المتحدة الأميركية، فإن الرهانات والأخطار على الدرجة ذاتها من الارتفاع. فعلى رغم وجود خلافات رئيسية ما بين تركيا وإدارة بوش حول الحرب في العراق، يعتبر البلدان أن العلاقات بينهما أكثر أهمية من أن يتم نبذها على جانب الطريق الرئيسية. ومن هذا المنطلق، يجري الآن بذل جهود كبيرة ومهمة تهدف إلى عمل البلدين معاً. وإذا قامت الولايات المتحدة لأي سبب كان بالخروج من العراق على نحو أسرع مما هو متوقع، فإن دور تركيا كعامل توازن أمام بلدان مثل إيران من شأنه أن يصبح أكثر أهمية. ومن بين المفارقات هنا أن السكان الأكراد في العراق- الذين يخشون منذ وقت بعيد من حدوث تدخل عسكري تركي- قد باتوا الآن مضطرين إلى اعتبار تركيا الطرف الذي من المرجح أن يحميهم قبل غيره في حال غسلت الولايات المتحدة الأميركية يديها من العراق ووجد الأكراد أنفسهم تحت رحمة العراقيين السّنة والشيعة.
ولذلك فإن ما سيحدث في الأشهر القادمة ستكون له حساسية وأهمية قصوى. فإذا رفضت أوروبا انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، فإن الولايات المتحدة ستحاول تعزيز روابطها مع أنقرة. لكن من شأن هذا ألاّ يعوّض تركيا عن رفض الاتحاد الأوروبي لها. ولذلك ستستمر الولايات المتحدة الأميركية في كونها مؤيداً قوياً لعضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي.