تعود الناس منذ الثورات العربية الأخيرة في نصف القرن الماضي على رؤية المفكرين والمثقفين والأدباء وأساتذة الجامعات من أهل الثقة وليس من أهل الخبرة من خلال أجهزة الإعلام والمؤسسات الثقافية يبررون سياسات النظم القائمة، ويجدون عشرات الحجج على حسن اختيارها، اشتراكية قومية أو رأسمالية قطرية، ملكية وراثية أو جمهوريات رئاسية. فالاشتراكية حتمية فيما عُرف باسم حتمية الحل الاشتراكي. والقومية ماضي العرب وحاضرهم ومستقبلهم. والملكية رمز لوحدة التراب الوطني وللشعب الواحد المتعدد الأعراق أو إرث للعائلة المالكة محققة الوحدة التي جاهد مؤسسها من أجل توحيد قبائلها وبناء دولتها الحديثة.
كما تعودت النظم السياسية أن تجد لها "موظفين" أيديولوجيين يقومون بهذه المهمة بل ويتنافسون فيها، ويتسابقون عليها. وتطول قوائم الانتظار من جميع الفرق، قوميين وماركسيين وليبراليين وإسلاميين سابقين. فالأيديولوجية الآن هي أيديولوجية الدولة. والولاء ليس هو الولاء الأيديولوجي القديم بل الولاء للدولة. "لا تسبوا الله فإن الله هو الدولة" كما تقول إحدى شخصيات نجيب محفوظ في إحدى رواياته تنويعا على حديث "لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر". كما أن هذا التبرير هو الطريق إلى الوزارة وربما إلى الإمارة. وهو طريق الثروة والسلطة، وسبيل الشهرة والصدارة. فإذا ما تغيرت خيارات النظم السياسية كما حدث بعد الثورات العربية الأخيرة أو بعد هزيمة يونيو في 1967 أو بعد موت عبدالناصر في 1970 أو بعد حرب أكتوبر1973، تغيرت التبريرات أيضا وربما بنفس الرجال. فالأولوية لاختيارات النظم، والتبعية للمفكرين والمنظرين والمفسرين والمجتهدين والأئمة والدعاة السياسيين. كان الزعيم هو الحصان والموظفون الأيديولوجيون هم العربة، متبوع وتابع. ومن يرفض هذا التصور فإنه من جرحى الثورة أو من الموتورين أو الإقطاعيين أو رجال العهد البائد أو من الخوارج والمتشددين أو ممن يعملون على قلب نظام الحكم، أعداء الثورة.
كان الزعيم هو الذي يحدد اختيارات النظام. وكان النظام هو الذي يحدد شكل الدولة. وكانت الدولة هي التي تقوم بتثقيف الشعب من خلال أجهزة الإعلام ومؤسسات الثقافة ومناهج التربية والتعليم. يوحي بأنه الزعيم الملهم الذي اختاره القدر لإنقاذ الشعب وقيادة الأمة وصنع التاريخ. وهو إما من صنع الوهم أو الإعلام أو أجهزة المخابرات الأجنبية والقوى الدولية. وكان يعطي لنفسه الأسماء والألقاب ويضع على صدره النياشين ويلبس الرداء العسكري الأشبه برداء النازية أو يعطي لنفسه ألقابا تسعة وتسعين مثل أسماء الله الحسنى أو يسمي دولته، وهي أصغر دولة، بالعظمى أسوة ببريطانيا العظمى التي لا تعني عظمة الإمبراطورية بل المنطقة الجغرافية تمييزا لها عن مقاطعة بريطانيا الصغرى في شمال فرنسا. وآخر يجمع بين قريش والجيش، زعيم الأمة وقائد الجيش، إمام المسلمين الذي يجمع بين السلطتين الدينية والسياسية. وآخر ينتسب إلى أسرة الرسول، وكأن النبوة ملكية وراثية بالرغم مما يروى عن الرسول "الخلافة بعدي ثلاثون سنة تتحول إلى ملك عضود". ويؤسس حزباً يصبح الحزب الحاكم، ويضع أيديولوجية النظام، ويحكم باسمه بعد انتخابات مزيفة يحصد فيها معظم مقاعد المجالس النيابية. ويتمتع بأغلبية مطلقة تجعله يفعل ما يشاء. وبقدر ما ينعزل عنه الناس يمتد سلطانه. فهو الحزب الوحيد الذي يمثل الاختيار الأوحد. وقد تنشأ أحزاب معارضة أخرى من داخل السلطة استيفاء للشكل الديمقراطي، محاصرة في مقار في وسط المدينة كناد للمثقفين أو السياسيين لإصدار جريدة أو لإلقاء خطب في المناسبات والأعياد الوطنية. ولا يسمح لها بتنظيم مظاهرة شعبية في ميدان عام. وإن حدثت التظاهرة فداخل المقر حيث تتنصت عربات الأمن بأجهزتها وربما بالصوت والصورة. من يقول ماذا؟ وربما استدرك بعض قادتها إلى أن يكونوا أعضاء في المؤسسات الدستورية بالتعيين لتذوق طعم السلطة التي يتوقون إليها. ولا بأس أن تصطدم مرة بالحزب الحاكم وأن تختلف معه تحت شعار "دعهم يتكلمون، ونحن نفعل ما نشاء".
فقد تكون المعارضة النظرية إحدى وسائل الحفاظ على أمن النظام في الداخل تفريجا عن هموم الناس، وفي الخارج تحقيقا لمتطلبات النظام الدولي بقيادة القطب الأوحد، الولايات المتحدة الأميركية، والذي يبغي التحول الديمقراطي من أجل ضمان نظام قادر على حماية العولمة، ينشّط القطاع الخاص، ويؤيد قطاع الأعمال، ويفتح البلاد لقوانين السوق ويلغي الحواجز الجمركية، ويدخل عالم المنافسة وهو غير قادر عليه.
واليوم أصبحت الدولة نفسها تقوم بدور الموظف الأيديولوجي مبرر النظام. فقد استكثرت الدولة عليه أن يقوم بهذه المهمة وحده. ونافسته في الدور لأنها أقدر منه عليه. تريد كسبا أعظم، هو استقرار النظام. كما يريد هو كسبا أقل، المعية السلطانية.
أصبحت الدولة الآن هي التي تقوم بدور المبرر للنظام الدولي. فهذه مهمة تصعب على المثقفين والمنظرين في الداخل. والدولة هي الحريصة على أن تنال الحظوة والرضا من نظام العالم