لو بحثت معي عزيزي القارئ عن أفضل تطبيق لقاعدة انقلاب الوسائل إلى غايات فإنك لن تجد أفضل من ممارساتنا التربوية في امتحانات الثانوية العامة التي يعيش البعض اليوم نارها الموصدة. ونصيحتي لك بعدم الحديث مع الإنسان الذي يكتوي بهذه النار. ولا يلام لأن نتيجة هذا الامتحان مرتبطة بمستقبل المتعلم الأكاديمي والمهني. فلو لا قدر الله كانت درجاته دون المستوى فأي سماء تظله وأية أرض تقله من الفضيحة المعلنة على صحائف الإعلام المختلفة؟ ثم أية مؤسسة تعليم عالٍ ستسمح له بالالتحاق بها؟. إنه واقع هذه الامتحانات التي عشناها جميعا عبر حقب التاريخ المختلفة. لكن التجربة لا زالت تتكرر. فلو سألت طالباً من الإمارات كان يسافر إلى قطر أو الكويت لتقديم الامتحان هناك لأنه لم يكن متوفرا في الدولة، أو التقيت بالأجيال الأولى التي قدمت الامتحان في الإمارات، مرورا بتجربتك الشخصية وربما ما تعانيه اليوم مع أحد أبنائك، لرأيت أن الامتحانات ما زالت كما هي. نعم طرأ تغيير بسيط على جودة الورق وتصميم الورقة الامتحانية، وعلى ما يبحث عنه في الامتحان، لكن الفكرة كما كانت والفلسفة كما هي والطريق إلى النجاح واحد، وجسر العبور إلى التعليم العالي ما زال يتعثر عليه الكثير من الناس.
لا أزعم أنني سآتي بالجديد لكن العالم اليوم مليء بالتجارب التي تجاوزت ما تعارف عليه العربي عبر العصور والدول، والمطلوب منا فقط أن نخرج من صندوق التجربة العربية المريرة كي نرى أن أرض الله واسعة والتجارب في هذا المجال شاسعة. ولعلي أشارككم فكرة ربما تلقى قبولا من المفكرين التربويين في الدولة أو خارجها، ومنطلق الفكرة بسيط جدا ألا وهو تغير متطلبات التعليم العالي في الإمارات عما كانت عليه في السابق، وكذلك التطور التربوي الذي شهدناه في دولتنا لكنه لم ينعكس على امتحان الثانوية العامة حتى هذا العام على الأقل.
من تجربتي الشخصية كمدير سابق لوحدة المتطلبات الجامعية العامة في جامعة الإمارات، والتي كنت أتعامل خلالها مع خريجي الثانوية العامة قبل التحاقهم بكلياتهم، من تلك التجربة لا زلت أتذكر جيدا حالات ليست بالقليلة من الطلبة المتميزين أي ممن حققوا نتائج جاوزت التسعين حسب مقاييس الثانوية العامة، يرسبون في امتحانات تحديد المستوى في الجامعة والتي كانت تقيِّم أداء الطلبة في اللغة العربية والرياضيات والحاسب الآلي واللغة الإنجليزية. حتى أنني شككت في أن العقبة وبالذات في الرياضيات كانت في اللغة الإنجليزية التي لم يتعامل معها طلبتنا من قبل، فأعد الامتحان لعينة من الطلبة باللغة العربية وكانت المفاجأة واضحة. لقد حققوا تقريبا نفس درجاتهم عندما امتحنوا باللغة الإنجليزية. فلم تكن المشكلة تكمن في اللغة لكنها في الامتحان وما يبحث عنه. من يومها كنت أفكر لمَ لا تنسق التربية والتعليم مع التعليم العالي في المخرج المطلوب من المتعلمين بعد انتهائهم من الثانوية العامة، بحيث لا يضطر الطلبة إلى دراسة سنة إضافية على الثانوية العامة قبل التحاقهم بكلياتهم؟ وفكرة أخرى لمَ لا يقسم امتحان الثانوية العامة لبعض المواد إلى قسمين يقيس أحدهما متطلبات المادة التي درسها المتعلم ويبحث الثاني عما يريده التعليم العالي وبهذا لن يضطر الطلبة إلى بدء عامهم الدراسي في الجامعات بامتحانات تحديد المستوى؟
أما على صعيد امتحان الثانوية العامة المرهق نفسيا وماديا لمَ لا نعيد النظر في فلسفته فنحوله إلى امتحان عام يقدمه الطالب متى اعتقد أنه جاهز له، وبمستوى التحدي الذي يريد؟ ماذا أقصد بهذه العبارة؟. نحن نعرف أن لكل علم مستويات، فمثلا المطلوب من المتعلم من الرياضيات للذي سيتخصص في الفيزياء، أو الرياضيات يختلف عن الطالب الذي سيدرس اللغات في التعليم العالي، وكذلك بقية المواد. ومن هنا أقترح أن يقسم الامتحان لكل مادة إلى مستويين يختار الطالب المستوى المناسب مع متطلبات التعليم العالي، ويكون هذا الامتحان بورقة الكمبيوتر التي يسجل فيها الطالب النتيجة مباشرة وعندما يغذى بها الكمبيوتر يحصل المتعلم على النتيجة دون الحاجة إلى لجان بشرية للتصحيح يرهق بها المصححون وتتأخر عملية إعلان النتائج. ولو فرضنا أن الطالب رسب في مادة ما فمن حقه تقديمها خلال زمن محدد باستخدام نفس الأسلوب، وبإمكانه تكرار هذا الامتحان حتى يحقق المستوى الذي يريد. وبإمكاننا أن نسمح للطلبة متى ما كان عندنا الكم المناسب من الأسئلة تقديم الامتحانات في فترات مختلفة. بهذا يتغير مفهوم الثانوية العامة، وتنتهي بعض أزماتها، ويتحول الامتحان فعلا إلى جسر ممدود للتعليم العالي.