إن سياسة "فك الارتباط الأحادي الجانب" والانسحاب من قطاع غزة ليست بالسياسة الإسرائيلية الجديدة. فلقد سبق لحزب العمل الإسرائيلي أن نادى بذلك منذ سنوات. ومن المعلوم أن حزب العمل، وليس أرئيل شارون، هو صاحب فكرة جدار الفصل العنصري. وكلنا نذكر كلام إسحق رابين العمالي عن قطاع غزة حيث تمنى أن يصحو يوما ويجد غزة وقد ابتلعها البحر! بل إن شارون نفسه كان قد رفض خطة الفصل الأحادي الجانب عندما اقترحها عليه أحد جنرالاته في هيئة الأركان عام 2001. فما الذي حصل ليندفع شارون إلى تبني تلك الخطة مخاطراً بمجمل علاقاته مع المستعمرين/"المستوطنين" الذين كان شارون، إلى أمد قريب، يعتبر بمثابة الأب الروحي لهم، وليخاطر أيضا بانهيار ائتلافه الحاكم؟! من المؤكد أن الأمر لا يتعلق بصحوة ضمير. كما أن شارون لم يعلن الانسحاب لأنه قد خرج من جلده الإرهابي، ومن أيديولوجيته اليمينية، ومن إيمانه المطلق بالاستعمار/بـ"الاستيطان" ونفي وجود الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة! فالأمر يتصل بحقيقة أن شارون واقع في حمأة مأزق حقيقي متعدد الأبعاد. فعلى المستوى الأمني، كان قد وعد الإسرائيليين بتوفير الأمن لهم والقضاء على الانتفاضة الفلسطينية في أسرع وقت بعد أن يطلق يد الجيش الإسرائيلي... لينتصر. وقد مر إلى الآن على الانتفاضة أكثر من ألف وثلاثمائة يوم وهي لا تزال مستمرة دون أن يكسر شارون إرادة الشعب الفلسطيني أو يدفعه للتراجع عن حقوقه الوطنية.
وفي الوقت الذي تستمر فيه المقاومة الفلسطينية بوتائر صاعدة/هابطة، تتعرض آلة الحرب الصهيونية والحكومة الشارونية للانتقاد بعد أن أخفقت خلال السنوات الماضية في كسر إرادة الانتفاضة، الأمر الذي ولّد حالة من العبثية العسكرية وانعدام الأفق السياسي والأمني الإسرائيلي. وقد ترجم كل ذلك بجدل سياسي حتى داخل اليمين الصهيوني، بل والأهم من ذلك، الجدل داخل المؤسسة الأمنية، الأمر الذي دفع شارون للتخلص من عدد من التبعات الأمنية والاقتصادية والسياسية للسيطرة على الفلسطينيين لا سيما بعد أن بات حوالي 75% من الإسرائيليين يؤيدون هذا الانفصال عبر المفاوضات أو بدونها. ولطالما سعى شارون للتملص من عملية التسوية، ولفرض الإملاءات على الفلسطينيين بالمواصفات الإسرائيلية، مستغلا الظروف الدولية والإقليمية الراهنة. ومع ذلك، فإن الانتفاضة باتت، باعتراف معظم القادة الصهيونيين، السبب الرئيس لخطط الانسحاب والخطوات أحادية الجانب، في ظل العزلة الدولية الكبيرة، وازدياد حرج الإدارة الأميركية مما يجري في فلسطين والعراق. بل إن شارون اعترف بأن خطة الإخلاء من طرف واحد جاءت بفعل الانتفاضة والمآزق المتعددة (إقليميا ودوليا) التي تمر بها تل أبيب. وفي تبرير خطته، يقول شارون:"إن هذه الخطوة ستجعل من دولة إسرائيل دولة هادئة أمنيا لفترة تزيد على 30 سنة قادمة".
أما العامل الآخر، ربما الأكثر أهمية على المدى المتوسط، فيتعلق بالعامل الديموغرافي الفلسطيني. وهذا هو الكابوس الذي بات يؤرق الدولة العبرية. فخلال سنوات قليلة، ووفقا لدراسات عديدة، سيتساوى -عدديا- الفلسطينيون واليهود الذين يعيشون بين نهر الأردن والبحر المتوسط. وبعد خمس عشرة سنة، سيشكل الفلسطينيون أغلبية وذلك نتيجة معدل زيادة المواليد المرتفع لديهم. وبعد مدة ليست بالطويلة، سيكون أمام الدولة العبرية أحد احتمالين لا ثالث لهما: فإما إنهاء الاحتلال والانفصال اليهودي تماما عن هذا الكم الهائل من البشر الفلسطينيين، أو أن يقوم الفلسطينيون (ومعهم قوى متنامية في العالم) بالمطالبة بحق المشاركة باللعبة الديمقراطية وعندها سيسود حكم الأغلبية وتتوقف إسرائيل عن كونها دولة يهودية الأغلبية. ولعل هذا هو السبب الأبرز الذي دفع شارون لوضع خطة انفرادية للتخلص من سكان قطاع غزة البالغ عددهم أكثر من مليون وربع المليون نسمة.
ومع ذلك، فإن الأمر ليس مقتصرا على الناحيتين الديموغرافية والأمنية على خطورتهما. ذك أن الوضع الاقتصادي للدولة العبرية قد دخل حالة من الركود لم يألفها الإسرائيليون من قبل في ظل حالة من الاستنفار والتوتر والنزيف لم يسبق لها مثيل منذ إنشاء الدولة الصهيونية. وإزاء ذلك، وقفت الحكومة الإسرائيلية عاجزة (لولا استمرار تدفق الدعم الأميركي المادي والمعنوي) إذ كان مكتب الإحصاء المركزي قد أعلن عن أن معدل البطالة في إسرائيل قد ارتفع إلى (10.6%) في الربع الأول من 2004 مقارنة مع (10.4%) في الربع الأخير من 2003. كما أن الاقتصاد الإسرائيلي يعاني من أسوأ كساد منذ 50 عاما بسبب عوامل أهمها تباطؤ الاقتصاد العالمي، واستمرار الانتفاضة. ولقد كشفت إحصائيات إسرائيلية أنه تم خلال 2003 إغلاق 36 ألف شركة ومؤسسة في الكيان الصهيوني وهو ما تسبب في طرد 103 آلاف عامل وذلك مؤشر على حالة الركود الخطيرة التي أصابت الاقتصاد الصهيوني خلال أعوام الانتفاضة.
ومن الأسباب التي دفعت شارون لتنفيذ خطته للانسحاب الأحادي الجانب محاولته الالتفاف على التفاعلات في الساحة السياسية الإسر