الديمقراطية بالتعريف الواسع تعني الحكم الذي يمارسه، نيابة عن الشعب، نواب منتخبون من الشعب نفسه. لكن الديمقراطية أكثر من مجرد انتخابات. فهي مرتبطة بالقيم الديمقراطية: الحكم على أساس موافقة المحكوم (جون لوك)؛ الحكم النيابي (جون ستيورات ميل)؛ مشاركة المحكومين في العملية السياسية (جيمس ماديسون)؛ فصل وتوازن القوى في فروع الحكم (مونتيسيكيو)؛ اللامركزية والقضاء المستقل (توكفيل)؛ وحق الشعب في الحياة والحرية وهو حق لا يمكن انتزاعه (جيفرسون).
وليست قيم الديمقراطية غريبة على ثقافة الشعوب العربية والإسلامية. فخارج نطاق مفهوم السيادة (وهي حق للشعب في الديمقراطية الغربية، وحق لله في الثقافة الإسلامية) تتجلى قيم الديمقراطية في احترام الإسلام للشورى ولحكم القانون وللمساواة.
وعلى رغم ذلك تبدو قيم الديمقراطية غريبة على نظام الحكم العربي. فالمبادئ الديمقراطية الأساسية في الحكم بالنيابة عن الشعب ولمصلحة الشعب هي مبادئ لا تنعكس في الحياة اليومية للعرب العاديين، وهذا تصور مشترك على نطاق واسع. وفي برنامج بثته قناة الجزيرة، سُئل المشاهدون "هل أصبحت أنظمة الحكم العربية الحالية أسوأ من الاستعمار؟" فكان جواب 76% من المتصلين بـ"نعم".
وعلى رغم ذلك يتمسك الحكّام العرب بحجج مقنعة مفادها أن الإصلاحات يجب أن تنبعث من الداخل، وأن تنفيذ الإصلاحات الجذرية يكون على أفضل وجه إذا كان متأنياً، وليس إذا كان فوضوياً.
لقد شنت منظمات حقوق الإنسان العربية حملات لتحقيق إصلاحات كهذه. ففي أبريل 1987، تبنى اتحاد المحامين العرب في مؤتمره السادس عشر في الكويت مسودةَ ميثاق لحقوق الإنسان وحقوق الشعوب في العالم العربي. وفي يونيو 2003، نظّم معهد القاهرة لدراسات حقوق الإنسان مؤتمراً آخر في بيروت أفضى إلى تبني إعلان بيروت المعني بالحماية الإقليمية لحقوق الإنسان في العالم العربي. ونَصَّ الإعلان على أن "الميثاق العربي لحقوق الإنسان يفتقر إلى عدد من المعايير والضمانات الدولية لحقوق الإنسان والتي تبنتها مناطق أخرى من العالم، ويفتقد إلى الآليات الضرورية لضمان ومراقبة تنفيذه". لكن منهج الحكومات في التطرق إلى حقوق الإنسان لم يبرهن على أنه مدروس ولم يكشف عن اهتمام حقيقي بالإصلاح الذي تزعم الأنظمة العربية أنها تنفذه.
وتم تأسيس نظام حماية حقوق الإنسان العربي ضمن إطار جامعة الدول العربية. لكن الجامعة تأسست في 1945 كمنظمة إقليمية معنية بالتنسيق بين سياسات الدول الأعضاء بغية "حماية استقلاليتها وسيادتها". وليس من بين أهدافها بند معني بتعزيز حقوق الإنسان. ويضاف إلى ذلك أن اللجنة الدائمة لحقوق الإنسان، وهي تابعة للجامعة العربية، لا تتمتع بصلاحيات حقيقية لمراقبة احترام الدول الأعضاء لحقوق الإنسان. وليس هناك آلية وإجراءات ملائمة للمراقبة ورفع الشكاوى. ولا يمكن أن يكون متوقعاً من الحكومات أن تراقب نفسها. وركّزت اللجنة المذكورة على انتهاكات إسرائيل الكثيرة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهذا صواب. لكنها قررت، وهذا خطأ، ألاّ تعير سوى اهتمام ضئيل أو معدوم لمسائل حقوق الإنسان في الدول الأعضاء.
وإضافة إلى ذلك، أظهرت الدول الأعضاء فعالية ملحوظة في تبني الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب الموقّعة في 1998، والتي سرعان ما صارت نافذة في 1999. وكان ذلك عموماً إجراءً غايته حماية الأنظمة العربية من تحديات التطرف. ووصفت منظمة العفو الدولية الاتفاقية بأنها "تهديد خطير لحقوق الإنسان".فلنقارن هذا بسجل الجامعة العربية في تعزيز حقوق الإنسان: لم تتبن الدول العربية الميثاق العربي لحقوق الإنسان، حتى عام 1994، على رغم أنه مقّدم في 1970. ولم يكن ممكناً اتهام الأنظمة العربية بالتسرّع غير المناسب في دفع حقوق الإنسان. حتى إن ميثاق عام 1994 ضم انتقاصات قلّلت من قيمته.
وفي 2003، تم تحديث الميثاق العربي في ضوء المعايير الدولية لحقوق الإنسان. لكن لجنة القانون الدولي عبّرت عن تحفظات جادة حيال النص المحدّث، وصرّحت بأن الميثاق "مشوب بنواحي نقص جوهرية: فهو يحتوي على محذوفات مهمة، ولا يضمن الحقوق إلا ظاهرياً، كما يقدم إمكانيات موسعة للقيود والانتقاصات من قيمة الحقوق المضمونة، وهو فوق ذلك لا يضم أية آلية حقيقية لمراقبة احترام هذه الحقوق". وقال خالد الناصري رئيس اللجنة العربية الدائمة لحقوق الإنسان، وهو رجل قانون مغربي، بعيد اجتماع اللجنة في فبراير 2004 إن الميثاق العربي الجديد "لم يصل إلى درجة الإعلان الشامل لحقوق الإنسان".
إن دعم نظام حقوق إنسان عربي مستقل حقاً ويعكس المعايير الدولية هو أمر يتطلب جهداً متواضعاً من جهة الحكام، لكنه جهد سيخلق قدراً هائلاً من الرضى بين المحكومين، وسيعني قطع شوط طويل نحو خلق ثقافة الانفتاح السياسي والتسامح والحكم الديمقراطي، وهي الاستجابة الوحيدة والمعقولة لإحباطات المهمّشين ومَن لا صوت لهم، ولخيبة أمل الجماهير، ولعمليات إذلال الشعب العربي.