عزيزتي الدكتورة شادية...
يوم عبور كوكب الزُهرة ما بين الأرض والشمس كنتُ على مسافة بضع مئات من الكيلومترات عنك، وكانت المسافة بين كلينا وكوكب الزهرة نحو 34 مليون كلم. صورة العبور كانت تقطع خلال دقيقتين ونصف المسافة من الزُهرة إلى مرصدك الفلكي في جامعة ويلز في بريطانيا، وتظهر بعدها بثوان على شاشة الكومبيوتر أمامي. علم الفلك، الذي ارتبط منذ ميلاده على يد البابليين في العراق قبل نحو ستة آلاف عام بالتنجيم والتنبؤ بالطالع جلب في 8 يونيو الحظ السعيد لملايين الناس حول العالم. وتمنيتُ لو أنك خصصت العالم العربي ذلك اليوم بحديث عبر الفضائيات العربية. فمشاهدة كوكب الزُهرة، توأم الأرض المتلألئ فرصة نادرة لم تحدث منذ عام 1882، ولن تتكرر إلاّ في عام 2012. وبعدها لن يشاهد العالم حتى عام 2117 هذا الكوكب اللعوب، الذي يختبئ وراء الكرة الأرضية، ولا يظهر إلاّ في الصباح متحجباً بالضوء. والجمهور العربي، الذي يتمتع بحس كوني عال بحكم ثقافته الإسلامية يبتهج لمعرفة أسرار الزُهرة، توأم الأرض وأقرب الكواكب إليها حجماً وموقعاً. وليس صدفة أن تتناقل وكالات الأنباء بالمناسبة تصريحات أطفال عرب، بينهم فتاة من البحرين اسمها هالة قيسو شهدت الحدث في مرصد جامعة البحرين وشبّهت الزُهرة بنملة تزحف فوق قرص الشمس، والطفل الفلسطيني نمر رمزي الذي قال وهو يرقب انعكاس عبور الزهرة على خيمته في رفح: سأصبح طياراً في المستقبل وأطير إلى هناك. لمِ لا؟ قد تنتبه البشرية لتكريم الفلسطينيين بعد قرن من العذاب فترسل رائداً منهم إلى الكوكب الذي يدور حول محوره عكس الكواكب الأخرى، وتشرق الشمس عليه من الغرب وتغيب من الشرق.
كم تسر العين والقلب رؤية وجهك الزاهر على موقع إنترنت جامعة ويلز، وقراءة المعلومات عن ميلادك في سوريا، وتخرجك من جامعة دمشق، وحصولك على الماجستير من الجامعة الأميركية في بيروت، والدكتوراه من جامعة سنسناتي في الولايات المتحدة، وتدرجك في المناصب العلمية من باحثة في مركز فيزياء الفضاء سميثسونيان التابع لجامعة هارفرد، حتى كرسي الأستاذية في جامعة ويلز في أبريستويث. تمنيت لو احتوى موقع الإنترنت على أكثر من ذكر عناوين بحوثك المنشورة التي تزيد عن 60 والمعلومات المبتسرة عن انتسابك للجمعية الملكية البريطانية لعلم الفلك والاتحادات العلمية الدولية. ولماذا 4 كلمات فقط ذات لمسة إنسانية عن هوايتك الموسيقية في عزف آلة التشيلو؟
أين هي قصة حياتك الملحمية مع الشمس، النجم الهائل الذي تستغرق الحركة ما بين مركزه وسطحه نحو مليون سنة؟ ولماذا يخلو الموقع من تفاصيل مساهمتك في الكشف لأول مرة في تاريخ العلم عن أسرار الرياح الشمسية، التي قالت عنها المجلة الأميركية "ساينس" Science إنها بمثابة "تفجير قنابل"؟ لا ذكر لتقرير المجلة العلمية الأولى في العالم عن ردود الأفعال على اكتشافاتك، التي تراوحت ما بين اعتبارها "هرطقة" و"خطوة عملاقة إلى الأمام" و"مثيرة للجدل" و"ثورية".
ولماذا لا يتضمن الموقع معلومات عن مساهماتك بدرس الرياح الشمسية، التي تغطي كالنسيج كواكب المنظومة الشمسية، وتحتضن الكرة الأرضية كملاءة تحميها من الأشعة الكونية المهلكة؟
ألا تستحق مساهماتك العلمية هذه موقعاً خاصاً لك على الإنترنت بالإنجليزية والعربية، يتضمن سيرتك الشخصية أيضاً وظروف نشأتك مع أربع شقيقات، بنات الدكتور نعيم رفاعي، أستاذ علم النفس في جامعة دمشق، ووالدتك الحلبية، التي تحمل الاسم الجميل زهر الرياض وتعمل مدرسة للغة الفرنسية؟ تتذكرين احتفاء العلماء العرب بك خلال لقائنا في الندوة الثانية للمؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا، التي عُقدت في الشارقة في الإمارات العربية المتحدة عام 2002. كم تلهفت نساء العلم القادمات من دول عربية عدة لمعرفة المزيد عن حياتك الشخصية، وكيف استطعت الجمع بين انشغالات الأسرة وتنشئة طفليك رهف وفراس، والتدريس والبحث العلمي، والنشاط الأكاديمي، وكيف تدّبرت قيادة فرق علمية لرصد كسوف الشمس حول العالم، وساهمت في تطوير أول مركبة فضائية ترسلها وكالة الفضاء الأميركية "ناسا" إلى أقرب نقطة من الشمس وتخترق إن شاء الله الهالة الشمسية عام 2007؟ وأين وجدت الوقت للمساهمة في قيادة حركة نساء العلم في الولايات المتحدة المعروفة بالاسم المرح "النساء المغامرات"؟
عبور كوكب الزُهرة معك على الإنترنت انتهك قفلاً فريداً في ذاكرتي فأطّل أجدادنا علماء الفلك العرب والمسلمون، الذين تخطّوا مثلك الحدود الجغرافية والحضارية والمعرفية لعلوم العالم القديم. فالإنجاز الأكبر لعلوم الفلك العربية، حسب العالم المصري رشدي راشد، الباحث في معهد الأبحاث القومي الفرنسي أنها كانت عالمية بمصادرها ومنابعها وبتطوراتها وامتداداتها. موسوعة تاريخ العلوم العربية، التي رأس تحريرها البروفيسور راشد وصدرت مجلداتها الثلاثة باللغات الفرنسية والإنجليزية والعربية تحدثت عن جسور تاريخية عظمى أقامها علماء عصر النهضة الإسلامية العربية بين علوم بابل و