جاء في عدد الخميس قبل الماضي من "الاتحاد"، أن الكاتب الصحفي السوداني الدكتور إبراهيم دقش أعلن اعتزاله الكتابة وأوقف زاويته الصحفية اليومية "عابر سبيل"، احتجاجاً على المعاملة التي تعرض لها من قبل السلطات حول ما كتبه عن حالة المفصولين من الهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون. وفي ملابسات الموضوع، أن الدكتور دقش قد اعتُقل ونُقل في السيارة المخصصة لنقل المجرمين إلى مباني نيابة الجرائم الموجهة ضد الدولة؛ متهماً بالتشهير وإساءة السمعة، حيث أطلق سراحُه بضمان في اليوم نفسه. وتحدث دقش عن معاناته مع الكتابة، وزيف التقدير الخارجي له، حيث أعطاه وَهْم الدبلوماسية وهو في الواقع يحرث في البحر كما قال.
أنا لا أعرف الدكتور المذكور، ولا أعلم مدى صحة الخبر المنشور أو حتى ردّ الدولة أو الحكومة السودانية عليه، ولكن ما يهمني هو تحالفي مع صاحب قلم تحدث عن ظاهرة مجتمعية بوجهة نظر قد يحالفها الصواب أو الخطأ! وأن الكلمة لا يجب أن تواجه بالرصاصة أو القيد أو سيارات المجرمين والمُهربين وقطاع الطرق. هنالك، دوماً وسائل حضارية للتعامل مع صاحب الكلمة، كما أن كل كتّاب العالم العربي ليست لهم أنياب، تماماً كما هي ديمقراطية هذا العالم.
لذلك يجب أن يتحالف الجميع من أصحاب الأقلام الشريفة مع الدكتور دقش إذا كان الموضوع الذي تم اعتقاله بسببه هو ما ذكر في الخبر الذي نقلته "الاتحاد".
الحكومات في هذا العالم العربي المسكين لا يعرف أغلبها الحلول الوسط، فإما حبٌ وحظوة وكرم مع الصحافي، وإما سجون ونفي وغيابات الجُب!.
لا أدري كيف تضيع الحكمة من القائمين على الإعلام -وبعضهم لا يمتلك الرؤى الصالحة لقيادة هذا الإعلام، ودوماً ينظر إلى الإعلام نظرة الحاكم، ويستبعد نظرة المحكوم- فيقومون بتصرفات وزراء الداخلية أو رجال المخابرات ويسجنون ويهينون ويوقفون المقالات دونما أدنى مسؤولية من ضمير أو حتى قانون. يستخدمون القمع والإكراه والضغط على رئيس التحرير أو حتى رئيس مجلس إدارة الصحيفة كي يوقف مقالاً لكاتب شريف تناول هماً من الهموم المحلية، أو ظاهرة شاذة في السلوك الحكومي. إن العقاب - لدى بعض القائمين على الشأن الإعلامي والأمني- يأتي حازماً وسريعاً ومؤلماً، وإن أتى بعضه على هيئة تدمير لحواس الكاتب أو تحقير ذاته بالإهمال والإقصاء عن الكلمة أو الصورة أو المحاربة في النفي عن حضور المنتديات المتخصصة أو التمثيل الخارجي لبلاده.
أنا دوماً مع الكاتب ضد قوى الشر، ومع الكلمة ضد الكلب البوليسي، ومع النور ضد الظلام، وأجدني أسمع كل الكتاب المخلصين مع هذا التوجه الحميد الذي يهدف، أول ما يهدف، إلى تنوير المجتمع، وكشف زيف الممارسات الخاطئة، والمساهمة في البنية التحتية للمجتمع، ولعل أهمها - كما يقولون في الأدبيات الرسمية- أن الإنسان هو أغلى الثروات. بينما يُرسل هذا الإنسان وراء الشمس لو كتب حقيقة واحدة لم تُعجب المسؤول، أو تم تفسيرها له بأنها ضد توجه الدولة؛ أو ضد تصرّفات أحد المسؤولين الشائنة بحق الوطن والمواطن.
أنا لا أستطيع تصور حالة كاتب ظل يكتب ثلاثين عاماً كلمات للوطن والخير والمحبة، ودافع عن حقوق المواطنين، وكشف زيف الممارسات الخاطئة، لا أستطيع تصور حالته وهو معزول عن الحياة اليومية بفعل خفافيش الظلام، أو "أساتذة" الجهل الذين "تُقدّسهم" الصحف وشاشات التلفزيون وهم لا يقرؤون رواية، ولا يستسيغون بيت شعر،ٍ ولا يعرفون المبني للمجهول من جمع المؤنث السالم!.
أنا لا أستطيع تصور حالة كاتب مؤمن بالكلمة، وبدوره في المجتمع، يتم تسوير منزله بالديناميت، وتُلاحق مكالماته الخارجية، وتُمنع مذيعات الإذاعة والتلفزيون من إجراء مقابلات معه يحتاجها المجتمع وتُحتمها الظروف!.
لقد جاء الوقت كي تحدد الدول - خصوصاً الدول العربية- موقفها من الكتّاب المخلصين الذين يتعرضون لاضطهادات بصور شتى، كلٌ حسب موقعه الجغرافي ورؤيته الفكرية، وتكف هذه الدول عن "إيذاء" أصحاب الأقلام الشريفة الذين لا يهددون عروش الحكام أبداً، ولكنهم يودون الغد المشرق لمواطنيهم. كما جاء الوقت لوقف المنشورات الحكومية -التي تصدر على هيئة قوانين بخاتم "الحاكم بأمر الله"، بحبس الصحافيين والكتّاب واقتيادهم بالسلاسل التي تقود المجرمين والمغتصبين وسارقي الأموال العامة! ولقد جاء الوقت، لتكفّ هذه الدول عن "استئجار" أقلام خارجية تبث السموم "البيضاء" على هيئة نفاق ودجل غير حميد بين صفوف المواطنين، بل يقوم بعضهم بـ"ضرب" الأقلام الشريفة التي لا تطمح للدولار أو الريال، وتجد تلك الأقلام المستأجرة التهليل والمباركة من النظام!
أين يذهب الكاتب الوطني إذا حاربته جريدته، وأين يذهب الإعلامي الوطني إذا حاربه إعلامه؟ إلى متى نعيش جاهلية "داحس والغبراء"، وإلى متى سنظل نسمع أنفسنا في الراديو ونشاهد أنفسنا في التلفزيون؟ وإلى متى سنمارس الخداع مع المواطنين، ونلبس مئات الأقنعة، رغم علمنا بأن المواطنين يعرفون وجوهنا والعلامات الفارقة فيها!
إن توقف أي قلم شريف ع