كرمت البشرية فضيلة العدل أكثر من غيرها من الفضائل عندما كونت وزارة باسمها، هي وزارة العدل. فلا توجد وزارة للتسامح أو للإخاء أو للرحمة أو غيرها من الفضائل. وكأن البشرية تؤكد بأن فضيلة الفضائل كلها هي العدل.
لكن مع مرور الزمن انقلبت تلك الوزارة إلى مؤسسة تقاضٍ، تحكم بين المتخاصمين حسب متطلبات القوانين وليس حسب مقتضيات العدالة. ولماً كانت القوانين تصدرها جهات تنفيذية أو تشريعية، لها حساباتها ولها أهدافها الخاصة بها أو بالجهة التي تمثلها، فإنها كثيراً ما كانت قوانين منحازة لفئة على حساب الأكثرية أو مراوغة وملتفة حول متطلبات العدالة الصارمة. وهكذا وجَدت المؤسسات التابعة لوزارة العدل، وعلى رأسها مؤسسة القضاء، نفسها كأداة تثبيت لأوضاع إنسانية جائرة. فالمطلوب من القضاء الالتزام بنصوص وروح القانون حتى ولو كان واضعوه من الظالمين أو الانتهازيين أو خدم الاستبداد والاستغلال. ولا يحتاج الإنسان لإثبات أن تاريخ القضاء في العالم كله، بنسب متفاوتة بالطبع، مملوء بالأحكام الظالمة التي نتجت عن تطبيق قوانين غير عادلة في مجتمعات بُنيت كل العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فيها من خلال هيمنة أقلية عرقية أو دينية أو عسكرية أو غيرها على الأكثرية من المسحوقين والمهمشين.
وهكذا انقلبت مؤسسة وجدت من أجل الدفاع عن العدالة إلى مؤسسة مضطرة، بسبب الطرق التي استعملت في تنظيمها وفي صوغ مسؤولياتها وفي ربطها ربطاً محكماً بالقوانين التي يضعها غيرها، إلى أن تمارس التقاضي بدلاً من الدفاع عن فضيلة العدل بكل شموليتها ومن المساهمة عبر الأزمنة في تطوير مفاهيمها وتطبيقاتها مثلما فعلت البشرية مع مفاهيم الحرية أو الديمقراطية أو المساواة على سبيل المثال.
من هنا إذا كان المجتمع حقاً يريد لمؤسسة العدالة أن تقوم بواجبها الأصلي فإنه يحتاج أن ينظر في إمكانية :
أولا: بناء مؤسسة تقوم إضافة إلى مسؤوليات تنظيم التقاضي بين الأفراد والمؤسسات، بواجب التأكد من توفر متطلبات العدالة في القوانين والأنظمة والممارسات العامة والعلاقات المجتمعية وغيرها، بل وفي نظام القضاء نفسه. إن ذلك سيتطلب وجود جهة ما في وزارات العدل أو خارجها قادرة، سلطة وتنظيماً واستقلالاً، على ممارسة مسؤولية تلك المراقبة والعمل، كضمير للمجتمع وكأحد أهم مرجعياته الأخلاقية، على تصحيح كل ما يخدش العدالة كما أرادتها الرسالات السماوية وكما استقرت في التراث الأخلاقي الإنساني الرفيع.
ثانيا: تنظيم مؤسسات مجتمع مدني تُعنى بموضوع العدالة كقيمة بذاتها، وليس كجزء من قيم أخرى كالديمقراطية مثلاً. وهذه المؤسسات تقوم بدورها بإسناد مؤسسة العدل الرسمية من جهة، لكي تبقى مستقلة مالياً وإدارياً وممارسة للمسؤوليات ومساهمة في التطوير الدائم لمقتضيات العدالة عبر الأزمنة وتغٌير الأحوال، ومن جهة أخرى تقوم بمراقبة مؤسسة العدل الرسمية تلك والتعبير الدائم أمام كل القوى عن مفاهيم العدالة من وجهة نظر المجتمع نفسه.
عندما أمر الله في القرآن الكريم بإقامة العدل أمر به كحق مطلق وكقيمة أخلاقية حاكمه لكل القيم الأخرى. وعليه فالمطلوب منا أن نُمأسِسَ ذلك التوجه الإلهي بحيث لا تضيع تلك الفضيلة في زواريب المؤسسات الأخرى التي نبنيها ولا يحُجب إشعاعها بألف حجاب من التزوير والمخادعة والتبريرات التي لا يرضى عنها الخالق.