في خضم المناقشات الصاخبة حول الإصلاح العربي وهل يتم بالفرض من قبل قوى خارجية كالولايات المتحدة الأميركية صاحبة مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الواسع حسب التعديل الأخير في المسمى، أو من الداخل، تثور تساؤلات شتى تحتاج إلي إجابات واضحة.
ولعل التساؤل الجوهري هو إذا تم رفض الإصلاح من الخارج كما أجمعت على ذلك الحكومات العربية والشعوب أيضاً، فما هي مكونات مشروع الإصلاح العربي، وما هي القوى السياسية والاجتماعية التي ستقوم على تنفيذه، وفي أي مدى زمني؟ بهذا التساؤل المبدئي نكون قد دخلنا في صميم المشكلة العويصة التي تواجه المجتمع العربي في مرحلة تطوره الراهنة، والتي لو أردنا أن نختزلها في عبارة واحدة لقلنا إنها سيطرة الشمولية والسلطوية التي تمارسها النظم السياسية العربية، والتي أدت إلى ما يطلق عليه العجز الديمقراطي! بمعنى الافتقار الشديد إلي الممارسات الديمقراطية، من أول ترسيخ مفهوم الديمقراطية ذاتها، وإكسابه الشرعية الدستورية والقانونية والثقافية التي يستحقها، وخصوصا بعد الخبرات المريرة التي عانتها الشعوب في القرن العشرين، نتيجة ممارسات النظم الديكتاتورية أيا كانت صورتها.
والمتأمل لردود فعل النظم السياسية العربية على اختلاف توجهاتها إزاء قضية الإصلاح يكتشف أن ممثليها من الملوك والرؤساء والقادة بعد أن يؤكدوا على ضرورة أن ينبع الإصلاح من الداخل، يمارسون سياسة المماطلة في التنفيذ بالاستناد إلى تعليلات شتى. بعضهم يقرر أنهم بدأوا الإصلاح فعلاً منذ سنوات طويلة ولم يتبق إلا بعض الخطوات البسيطة حتى تكتمل صورة النموذج الديمقراطي الأصيل كما يعتقدون أن نظمهم تمثله. والبعض الآخر بعد أن أعلن نيته الإصلاح يبدأ بخطوات بالغة البطء على أساس أن التسرع في هذا المجال بالغ الخطورة، وقد يؤثر علي الاستقرار السياسي، في تجاهل تام للتفرقة الضرورية بين الاستقرار والجمود بل والانهيار السياسي! وفي كل الأحوال ليست هناك خطط عربية معلنة للإصلاح تحدد مفهومه وتبين مكوناته وإجراءاته ومداه الزمني، والقوى السياسية والاجتماعية التي ستقوده.
وفي تقديرنا أن كل الرؤى العربية الرسمية – بلا استثناء – التي تتحدث عن الإصلاح تعني في الواقع إصلاحاً مبتوراً. ويصبح الإصلاح مبتورا إن لم يتصد لمهمة التغيير الشامل لطبيعة النظم السياسية العربية السائدة. ونحن نعترف سلفا بأن مهمة التغيير الشامل بالمعنى الذي حددناه ليست سهلة ولا ميسورة، لأنها ستكون أشبه بزلزال سيعيد حرث التربة السياسية، مما من شأنه تغيير مواقع جماعات السلطة وأصحاب النفوذ والطبقات المسيطرة. هي عملية مجتمعية شاملة من شأنها - لو تمت- إعادة الصياغة الكاملة للمجتمعات العربية، بما يتفق مع معايير الدولة الحديثة التي شهدها بالفعل القرن العشرون. وليس ذلك فقط، بل إن نموذج الدولة الحديثة أصبح الآن هو المرجعية التي تصبو شعوب متعددة في مختلف قارات العالم إلى تحقيقها، من خلال تطور سلمي تقوده نخب سياسية مستنيرة، أجادت فهم لغة العصر، ولا تعاند بغباء المسار التطوري للتاريخ. إن خبرة القرن العشرين مازالت ماثلة أمام أبصارنا. إن الشعوب لا تعيش بالشعارات الفارغة من المضمون، ولكن بالممارسة الحية الفعالة.
ويمكن القول بإيجاز شديد إن الدولة الحديثة لابد أن تكون دولة علمانية تفصل بوضوح بين الدين والدولة، بحيث تقوم على التشريع وليس على الفتوى، ولا تتيح أدنى فرصة لرجال الدين – أي دين – أن يهيمنوا على مقدرات التطور الاجتماعي من خلال تأويلاتهم الصحيحة أو المشوهة للنصوص الدينية. والعلمانية – على عكس ما يشيع أنصار تيار الإسلام السياسي – تحترم الأديان كافة، وتتيح الفرصة الكاملة لاتباع كل دين لكي يمارسوا طقوسهم كما يشاءون في ظل الدستور والقانون. وقد تكون فرنسا – بالرغم من الصخب اللاعقلاني حول منع ارتداء الرموز الدينية الإسلامية واليهودية والمسيحية في المدارس العامة وأماكن العمل – نموذجا للدولة العلمانية المستنيرة.
والعلمانية لا تعني إطلاقاً فصل الدين عن المجتمع، لأن الدين يتخلل أنسجة كافة المجتمعات الإنسانية، وإنما هي – كمذهب سياسي – تحرص على الفصل بين السلطة السياسية والسلطة الدينية.
الدولة الحديثة علمانية بحسب التعريف، ولكنها أيضاً تقوم على أساس فكرة المواطنة المتساوية لأعضاء المجتمع بغض النظر عن الدين واللون والجنس. وهي تمثل دولة القانون بامتياز.
والدولة الحديثة تطبق عادة نظرية الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتحرص على حراسة هذا الفصل وضمان عدم اختلاط الأوراق، حتى تقوم كل سلطة بالدور المنوط بها.
والدولة الحديثة الديمقراطية تحترم التعددية السياسية، وتوفر ضمانات حرية التنظيم وحرية التعبير وحرية التفكير. وهي لذلك عادة ما تجرى فيها انتخابات دورية لرئيس الجمهورية لو كانت جمهورية، وكذلك انتخابات دورية تتسم بالشفافية لكافة المجالس التشريعية والمحلية. والدولة الحديثة الديمقراطية تؤمن إيمانا عميقا بتداول السلطة، هذ