كانت نتائج انتخابات المجالس المحلية التي جرت في بريطانيا كارثة سياسية بكل المقاييس على حزب العمال البريطاني الحاكم برئاسة رئيس الوزراء "توني بلير"، والذي قاد الحزب إلى النصر في دورتين انتخابيتين، حقق فيهما حزبه أغلبية مريحة في انتخابات مجلس العموم البريطاني "البرلمان". للمرة الأولى في التاريخ البريطاني المعاصر، ينحدر حزب حاكم في انتخابات المجالس البلدية إلى المركز الثالث، فيما قالت الصحف البريطانية. ووراء تلك الكارثة الانتخابية التي لحقت بحزب العمال البريطاني العتيد سياسة رئيس الوزراء العراقية، وموقفه واشتراكه في حرب العراق التي عارضتها أغلبية البريطانيين، والتي عرضت حزبه إلى التفكك والانقسام حولها، ودفعت بعدد من وزرائه ونواب حزبه إلى معارضته علناً والاستقالة من مجلس وزرائه.
وحقيقة الأمر أن الرأي العام البريطاني لم يشهد انقساماً في موقفه تجاه قضية سياسية منذ حرب السويس ومؤامرة الغزو الثلاثي التي دبرها المحافظون الحاكمون آنذاك مع فرنسا وإسرائيل، كما انقسم تجاه حرب بوش- بلير العراقية. وما تزال لندن تذكر المواكب والمظاهرات الاحتجاجية التي كانت تجري كل نهاية أسبوع في لندن وغيرها من المدن البريطانية إبان مرحلة الإعداد لغزو العراق وأثناء الغزو، وقد كانت تلك أصعب أيام بلير السياسية، والتي واجه فيها أغلبية كبيرة من شعبه كانت -وما تزال- ترفض الغزو، وتعارض سياسته المندفعة وراء التحالف مع الولايات المتحدة، ودعمه غير المحدود للرئيس الأميركي ومسايرته له حتى في الأكاذيب التي أصبحت معروفة حول أسلحة الدمار الشامل العراقية التي اتخذت ذريعة للغزو، والتي دفعت حتى بعض أعضاء حزبه البارزين إلى دمغه بالكذب والتدليس والتزوير. كذلك فإن ما تكشف من فضائح حلفائه الأميركيين في سجن أبو غريب وغيره قد أضعف من موقفه السياسي وقوى موقف خصومه المناوئين للحرب ولغزو العراق، ووضع زعامته لحزب العمال موضع تساؤل كبير، كان يدور في نطاق ضيق، وأصبح اليوم يقال علناً وبالصوت المسموع، ويصدر عن دوائر نافذة في الحزب العتيد. فالمؤسسة الحزبية العمالية تتساءل الآن - كما نشرت الايفننج ستاندر- عما إذا كان السيد بلير قد أصبح عبئاً انتخابياً على الحزب الذي سيخوض معركة الانتخابات العامة في بريطانيا العام القادم؟
إن غزو العراق وما أحدثه من شروخ وانقسامات في العالم الغربي سيظل يجر ذيوله لفترة طويلة من الزمن، وبصورة أو أخرى أصبح موضوع الحرب الأميركية-البريطانية في العراق، عاملاً مؤثراً في الانتخابات والحياة السياسية ليس في بريطانيا وحدها، ولكن أيضاً في بلدان أوروبية عديدة شاركت حكوماتها أو عارضت الغزو الأميركي-البريطاني للعراق.
ولقد أعلن الناخبون البريطانيون رأيهم في انتخاباتهم البلدية، وعاقبوا السيد بلير وحزبه ودفعوا به إلى المرتبة الثالثة، وكافأوا حزب الأحرار الديمقراطيين المعارض للغزو وصعدوا به إلى المرتبة الثانية لأول مرة في التاريخ البريطاني المعاصر. وهكذا فإن "لعنة العراق" أو شبح العراق - كما قال السيد بلير بعد إعلان نتائج الانتخابات- سيظل يحوم حول بلير وسياسته. ومن يدري فقد يطيح به كما أطاح شبح السويس بأنتوني إيدن من قبل.