لابد أن البعض، على الأقل، قد لاحظ أن اهتمام الإعلام العربي بالانتهاكات الأميركية في أبو غريب قد خفت. بالنسبة للإعلام الأميركي يبدو أن هذه القضية لا تزال في بداياتها. هناك أسباب عدة لهذه المفارقة. أهم هذه الأسباب يتعلق أولا بمسألة المعلومة ومدى توفرها، وثانياً بطبيعة اختلاف الدور المنوط بكل واحد من هذين الإعلامين في الإطار السياسي والثقافي الذي يتحرك فيه كل منهما. فمن حيث المعلومة لعله من الواضح أن الإعلام العربي لم يملك من المعلومة حول هذه القضية ما يمكن القول إنه معلومات خاصة به، حصل عليها نتيجة لنشاطه أو علاقاته. على العكس، تكاد كل المعلومات التي اعتمد عليها الإعلام العربي في تغطيته، وتحليلاته لها تكون مأخوذة من الإعلام الأميركي. الإعلام الأخير هو أول من فجر قضية الانتهاكات والتعذيب في أبو غريب، ولا يزال هو الأبرز، حتى عالميا، في تغطيته ومتابعته لها. وهي متابعة لم تتوقف حتى الآن. بل لا يزال الإعلام الأميركي، وبعد مضي أكثر من شهر على هذه الفضيحة، يكشف المزيد من المعلومات حولها، خاصة ما يتعلق منها بمدى تورط قيادات عليا في وزارة الدفاع الأميركية، وفي البيت الأبيض، في التوجيه أو الإيحاء باعتماد نوع ودرجة التعذيب المطلوبة للسجناء العراقيين في ذلك السجن سيئ السمعة.
السؤال المحوري الذي ركز عليه الإعلام الأميركي في تناوله لهذه القضية يتمحور حول السبب الرئيسي الذي حدا بسلطات الاحتلال الأميركية للجوء إلى هذه الدرجة البشعة من التحقيق مع بعض سجناء أبو غريب. وكان أول من حدد مسار التغطية الصحفية في هذا الاتجاه هو الصحفي الأميركي سيمور هيرش. حيث كتب تحقيقا مطولا عالج فيه هذا السؤال، ونشره في مجلة الـ"نيويوركر" الأميركية بتاريخ 15 من الشهر الماضي. ينطلق هيرش في تحقيقه من فرضية استطاع التأسيس لها من خلال معلومات غزيرة أفضى بها إليه مسؤول سابق في وزارة الدفاع. قبل المضي في كشف هذه الفرضية لاحظ هنا كيف أن مصدر هيرش، مثل غيره من المصادر الحكومية المتوفرة للصحافة الأميركية، يكشف طبيعة العلاقة بين الصحافة والسلطة السياسية، ويحدد طبيعة دورها كسلطة رابعة بالمعنى السياسي والاجتماعي، وإن لم يكن بالمعنى القانوني تماما. فالمسؤول السابق في وزارة الدفاع مارس هنا عملية تسريب لمعلومات يفترض فيها أن تكون سرية، أو ليست للتداول خارج إطار البنتاغون ووكالة المخابرات المركزية. وقد فعل ذلك بشكل أساسي للتأثير على العملية السياسية، وعلى صناعة القرار فيما يتعلق بموضوع ما يعرف بالحرب على الإرهاب من قبل هذه الإدارة، وفي هذه المرحلة تحديداً. من جانبه يحتاج صحفي مثل هيرش لممارسة دوره إلى هذه العلاقة، وإلى استعداد المسؤول السابق لاستخدام الصحافة للهدف الذي يعتبره حيويا بالنسبة له شخصيا، أو بالنسبة لقناعاته وانتمائه السياسي. ومن هنا تتفاعل العلاقة بين الصحافة وبين السلطة السياسية، مما يعزز دور الصحافة في أن تكون رقيبا على السلطة السياسية، أو سلطة رابعة. طبعا كل ذلك يحصل في إطار دستوري يعطي الصحافة حق حرية التعبير، وإن ضمن ضوابط متوافق عليها بين الطرفين.
المهم أن الفرضية التي انطلق منها هيرش تقول إن قصة أبو غريب بدأت بمعنى ما بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر بأسابيع. كان من الواضح آنذاك أن ما يعرف بالحرب على الإرهاب يواجه صعوبات تحدُّ من حجم وتأثير ما تحقق من نجاحات محدودة. وبحكم طبيعته التي تميل إلى المباشرة في ردود أفعاله، كما يقول هيرش، اتخذ وزير الدفاع، دونالد رامسفيلد، قرارا بإنشاء برنامج سري جدا يوفر مصادقة رسمية مسبقة ومفتوحة لإلقاء القبض على، أو قتل أو التحقيق مع الأهداف ذات القيمة العالية من منظمة القاعدة. وحتى منتصف العام الماضي كان هذا البرنامج، واسمه Special Access Program)SAP)، يعتبر داخل دوائر البنتاغون ناجحا.
في ذلك الوقت كانت الحرب على العراق قد بدأت، وتم استخدام "ساب" (SAP)، حسب هيرش، في بعض المهمات داخل العراق. لكن الإشكالية أن القوات الأميركية لم تتمكن من وقف تصاعد المقاومة العراقية. في الأشهر الأولى التي أعقبت سقوط بغداد كانت رؤية رامسفيلد ومساعديه محدودة، بحيث لم يرو في المقاومة إلا أنها من عمل عناصر البعث السابقين، إلى جانب عصابات من المجرمين، والإرهابيين الأجانب من القاعدة. لكن "المقاومة" كان يتسع نطاقها، وعملياتها تزداد في عددها وقدرتها على تهديد الأمن. في الوقت نفسه لم تحقق المؤسسة العسكرية ولا المؤسسات الاستخباراتية الأميركية إلا نجاحات محدودة في اختراقها استخباراتيا. الأسوأ من ذلك أن ما حصل هو العكس، وهو أن "المقاومة" تبدو هي التي تحقق نجاحات استخباراتية واضحة. وقد حصل هيرش على تقرير داخلي قدم للجيش الأميركي يؤكد ذلك. حيث يخلص التقرير إلى القول إن نجاح" المقاومة" يعود "إلى عمليات تحريات ومراقبة دقيقة". ثم يشير التقرير إلى أن "معلومات داخلية يتم تسريبها إلى خلاياها عن تحركات القوافل والجنود، وعن العادات اليومية للعراقيين الذين يعملون