ثمة نظرة عربية ازدرائية تجاه أفريقيا والأفارقة تتوافق مع نظرة مشابهة تعاني منها القارة السوداء في عيون الكثيرين من عالم اليوم. فأفريقيا هي قارة الفشل التاريخي حيث الحروب الأهلية والإثنية الطاحنة تتناسل بلا انتهاء. وحيث الفقر والمجاعات يأكلان الأخضر واليابس، وحيث فساد الحكام والنخب المسيطرة يزيد من فاقة البلدان والمجتمعات وينهب ثرواتها المحدودة. وفي أكثر مطالعة للوضع الأفريقي يكون الاستنتاج شبه العام أنها القارة المستحيلة التي لا يمكن أن تنهض.
لكن يبدو أن هناك وجها آخر لتلك الصورة القاتمة، علينا نحن العرب تحديداً أن نتأمل فيه ونتعلم منه الدروس. هذا الوجه يقول إنه برغم كل الدماء التي سفكت في الحروب الأهلية الأفريقية، والفقر والكوارث سواء الطبيعية أو تلك التي صنعها الإنسان، فإن عددا من بلدان القارة تنهض وتنمو وتتقدم بشكل ملفت للانتباه. بعضها واجه صراعات إبادة عرقية أهلية، كما في رواندا، سقط فيها أكثر من ثمانمائة ألف ضحية، ومع ذلك استطاع البلد أن يجد صيغة ينهض بها من ركام الحرب، ويحقق فيها أشواطاً من المصالحة الأهلية، ويستفيد من المساعدات الدولية ليخفض مستويات الفقر إلى حدود مشجعة.
تقول تفاصيل الصورة الأفريقية إن معدل النمو الاقتصادي في دول جنوب الصحراء خلال عامي 1995 و1996 كان يتراوح بين 8.3% و6.4%، وهو أعلى من معدل النمو الاقتصادي العالمي آنذاك. في بعض البلدان الأفريقية هناك ديمقراطيات تشتغل بشكل يجعلنا نحن العرب نستحي من أنفسنا. هناك حكام ورؤساء يخوضون انتخابات عامة فيخسرون فيتنحون كما حصل مع دانيال أراب موي في كينيا عام 2002. هناك معارضات مسلحة شرسة تلقي السلاح وتتوافق مع النظام القائم على صيغة مشاركة في الحكم (كما في أنغولا وموزامبيق وأكثر من بلد). هناك تجارة تتقدم، وأوضاع اقتصادية تتحسن تدريجيا، ورغبة حقيقية في النهوض تدعمها إرادة سياسية لمجموعة من البلدان القيادية التي تريد فعلاً تغيير وجه القارة، وفي مقدمتها جنوب أفريقيا، ونيجيريا. وعلى وجه الخصوص تلعب جنوب أفريقيا دور القائد الإقليمي الذي يؤمن بأن نهضة الإقليم والقارة كلها هي نهضة متكاملة ويعضد بعضها بعضاً. إذ لم يعد هناك مكان لبلد يؤمِّن تنميته الخاصة وسط جيران فقراء، لأن فقرهم سيفيض عليه ويدمر نهضته آجلا أم عاجلاً. جنوب أفريقيا التي تنحى أسطورتها الحية نيلسون مانديلا عن الحكم قدمت للأفارقة العرب وللعالم الثالث نموذجا جديداً في التسيس حيث لا يتمسك الحاكم بالحكم حتى لو كان بعظمة مانديلا الذي لا يدانيه كل الحكام العرب مجموعين إلى بعضهم بعضاً.
قصة النجاح الأفريقي في بعض الدول، مثل بوتسوانا، ورواندا، وموزامبيق، ليست كاملة بل نسبية، الأمر الذي يطعن فيها بقدر ما يجعلها درساً عمليا يمكن الاستفادة منه. ففي تلك البلدان ما زالت هناك قائمة لا تنتهي من المشكلات والمعضلات التي قد تعود وتعصف بها إن لم تستمر الحكمة سائدة في تسيير الأوضاع. لكن يبقى الدرس الأفريقي الكبير يقول لنا إن النهوض ممكن حتى من دون ثروات. وإن الإحباط الذي يلفنا في المنطقة ويجعل نظرتنا سوداوية ليس قدرا محتوما بل يمكن التخلص منه. ولنتأمل عن قرب في بعض تفاصيل الصورة الأفريقية في البلدان الثلاثة المذكورة. في بوتسوانا، البلد الذي استقل عام 1966، يقارب معدل دخل الفرد في الوقت الحالي عشرة آلاف دولار. وهو معدل يزيد على نظيره في البلدان العربية كلها ما عدا أربعة أو خمسة بلدان خليجية. وخلال حقبة الثمانينيات بلغ متوسط معدل النمو الاقتصادي 11%. صحيح أن الماس يشكل العمود الفقري للتنمية الاقتصادية، لكن التقارير الدولية تشير إلى أن بوتسوانا تتميز بغياب الفساد المالي على مستوى النخبة الحاكمة، والتوزيع الحكيم والعادل للثروة. وهي إذ تواجه معدلات مرتفعة ومخيفة من الأيدز، إلا أنها البلد الأفريقي الوحيد الذي لا يتلقى مساعدات مالية من الخارج، بل إن عضويتها في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي عضوية دائنة وليست مدينة (أي تعطي ولا تأخذ!). نظام الحكم في البلاد رئاسي معتمد على توافقات ناجحة مع وبين القبائل الرئيسية أمّن احترام الدولة للقبائل وتخلي القبائل عن سلطات واسعة للدولة اعترافا بها وبأولويتها.
في موزامبيق تأخذ قصة النجاح منحى آخر: حرب أهلية طاحنة، استمرت أكثر من عقد ونصف بين الحكومة بقيادة حركة فريليمو (المدعومة سوفياتياً) وحركة المعارضة رينامو (المدعومة برتغالياً)، انتهت باتفاقية سلام وقعت في روما سنة 1992، ولصالح الحزب الحاكم عملياً. هذا الأخير يعمل بقضه وقضيضه على مماهاة مصلحته في البقاء في السلطة مع تحقيق إنجازات وطنية على صعيد الاقتصاد والتنمية والاستقرار السياسي.
على مدار اثنتي عشرة سنة، حقبة ما بعد الحرب الأهلية، حققت موزامبيق معدل نمو اقتصادي متواصل يحوم حول نسبة 9%، وهو معدل مثير للدهشة بالمعايير الأفريقية، وحتى العالمية. هذا النمو الاقتصادي أفاد القطاعات الاجتماعية والشعبية وقلص فجوات الفقر، رغم أنه كا