لا شيء يدعو إلى الخوف من "شراكة" تريدها الدول الكبرى مع العرب "من أجل التقدم"، ولـ"مستقبل مشترك"، سيان إذا سموه الشرق الأوسط "الكبير" أو "الأوسع". وماذا لو أرادوا ضم أفغانستان أو باكستان إليه، ثم ماذا عن إيران، وأين إسرائيل وهل يعني غيابها أو تغييبها أنها بلغت "التقدم" ولا يلزمها "إصلاح" أم أنه لا مكان لها في "المستقبل المشترك"، أم أنها وهي المزروعة زرعاً في الشرق الأوسط تريد أن تبقى خارجه مهما كبر أو توسع؟
تساؤلات كهذه يطرحها أوروبيون كانوا بدأوا مع هذه المبادرة الأميركية متوجسين قلقين، وما لبثوا أن تعرفوا شيئاً فشيئاً إلى خيط البراغماتية الرفيع في الأطروحة الأميركية. في مستهل البحث ظنوا هم أيضاً، وليس العرب وحدهم، أن الولايات المتحدة لا تريد شركاء في هذه المبادرة، كما فعلت في الحرب على العراق، وأنها تسمح لهم بمجرد أخذ العلم بما تخطط له. ولم يتأخروا في إبداء آرائهم، منذ اللقاء الأول، وقد أزعجتهم اللغة واللهجة اللتان استخدمهما الأميركيون. وللحق، فإن الأوروبيين لا يعتقدون أن واشنطن بدلت اللهجة، إلا أنهم سجلوا بترحيب عرضها صيغة "الشراكة". وطالما أنهم أصبحوا شركاء فهذا يعني أنهم يستطيعون إضفاء لمستهم على المشروع، وإلا فلا شراكة، ولتذهب الولايات المتحدة إلى هذه المبادرة وحدها مع من يرغب من شركائها الجاهزين المعروفين. ولعلهم حققوا ما أرادوه في هذا المجال: فلا سبيل إلى أي إصلاح يكون مرادفاً ومواكباً للغزو العسكري أو للتهديد به.
إذا كان ممكناً الحكم على نص وثيقتي "الشراكة" و"الإصلاح" اللتين تبنتهما قمة الدول الثماني، فإن أحداً لا يستطيع القول إنه يرى فيهما جيوشاً تزحف أو أسلحة تخزن أو حروباً تُدقُّ طبولها. هذه دول تريد أن تقدم خبرتها في كل مجال إلى البلدان "الراغبة". هذه دول تعتزم تقديم مساعدات مالية لتحقيق تقدم على أكثر من صعيد. ماذا تريد في المقابل؟ لديها أسباب للاعتقاد بأن الإصلاح يبعد أشباح العنف والإرهاب عن أمنها وأمانها، ويقلص موجات الهجرة التي بدأت تسبب لها مشكلات اجتماعية وثقافية. وبمعزل عن الإرهاب والاستخدام الأميركي والإسرائيلي السيئ له، هناك بلدان عربية كثيرة تحتاج إلى الخبرات والمساعدات المقترحة، بل إن العديد منها يعيش حالياً بواسطة تلك المساعدات، فهل يرفضها الآن وقد أصبحت تشترط إصلاحاً سياسياً؟ هذا الإصلاح ضرورة وطنية قبل أن يكون رغبة أميركية أو حتى أوروبية.
كان الوضع ليكون أسوأ لو أن هذه المبادرة ظلت أميركية بحتة، فالأميركيون لديهم "مصداقية" في القوة النارية والقدرات العسكرية فقط. عدا ذلك ينبغي البحث عن أطراف أخرى متى تعلق الأمر بالثقافة والاجتماع، أو حتى بالاقتصاد. وإذا كان إشكال مطروحاً الآن فهو أن البلدان العربية ستجد نفسها منقسمة بين راغبة وغير راغبة في السير في هذه "الشراكة"، لكن دينامية الإصلاح ستفرض نفسها، وسيكون من الصعب تجاهلها. ثم إن غير الراغبين لم يسبق أن برهنوا على أنهم يملكون بدائل حقيقية، عملية ومجدية. هل تصور أحدنا أن البنود العملية الواردة في وثيقة "دعم الإصلاح" يمكن أن تصدر عن أي مؤتمر عربي، على مستوى القمة أو أي مستوى آخر؟ نعم، كان ذلك ممكناً. لكنه، للأسف، لم يحصل. ولا أحد منا يعتقد أن أي "واجب قومي"، كالدفاع عن فلسطين وتحريرها، قد حال دون تفكير العرب فرادى وجماعات في ما يجب عمله من أجل الإصلاح الداخلي والارتقاء بالإنسان والمجتمعات.
إذا كان هناك من العرب من قال للأميركيين إن تأخر حل قضية فلسطين هو ما يؤخر الإصلاح، فإن حجته مردودة لأنها تعكس سعيه إلى الهروب من واجب الإصلاح. وعندما يقول الأميركيون إن الإصلاحات يجب ألا تنتظر حل قضية فلسطين، فإن حجتهم مردودة أيضاً لأنها تعكس سعيهم إلى التهرب من حل تلك القضية بعدما بات الحل مسؤولية أميركية.
الأوروبيون كما العرب لا يثقون بالنيات الأميركية ولا يضمنونها، لكن وضع استحقاق الإصلاح على الأجندة يجب أن ينظر إليه على أنه مصلحة وطنية أولاً وأخيراً، ويجب التعامل معه على هذا الأساس. أما الخوف من أن الإصلاح يعني تغييراً فلا يعادله سوى الاعتقاد بأن الإصلاح يعني بقاء الحال على حاله. طبعاً الإصلاح يعني التغيير، ولذلك ينبغي أن يأتي من الداخل، وفقاً لمصلحة البلاد والعباد، وإلا فإنه سيأتي من الخارج ولمصالح الآخرين.