مسألة الردة من المسائل التي تنوعت فيها الآراء بين علماء الإسلام واختلفت، وذلك راجع إلى تنوع واختلاف الكيفيات والظروف التي تطرح فيها هذه المسألة.
وكما رأينا في مقال سابق، فقد قرر أبو بكر رضي الله عنه قتال "أهل الردة" الذين امتنعوا عن دفع الزكاة له عندما خلف الرسول عليه الصلاة والسلام في تسيير شؤون الدولة الإسلامية الوليدة، محتجين بأنهم إنما كانوا يدفعونها للنبي، والنبي قد توفي. هذا بينما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرى رأياً آخر: لقد غلَّب أبو بكر مصلحة الدولة يوم كانت الدولة مهددة، فقاتل مانعي الزكاة، أما عمر بن الخطاب فقد كان يرى أن الأمر يتعلق بأناس يعلنون إسلامهم، وبالتالي لا يجوز قتالهم، مستندا إلى حديث مشهور قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام "‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد ‏‏عصم‏ ‏مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله". ‏ ‏فقال ‏أبو بكر ‏والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني ‏عقالا ‏كانوا يؤدونه إلى رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم‏ ‏لقاتلتهم على منعه. وعندما تولى عمر الخلافة بعد وفاة أبي بكر والدولة وطيدة الأركان، ارتأى أنه من المصلحة رد الاعتبار إليهم وطي الصفحة طيا. أما الردة بالمعنى العام الذي يعني تغيير المسلم دينه بالرجوع عن الإسلام والالتحاق بدين آخر، فقد وردت في شأنها نصوص واجتهادات.
لنبدأ بذكر النصوص وهي قسمان: قسم مكي ينتمي إلى قرآن الدعوة وقسم مدني ينتمي إلى قرآن التشريع. القسم الأول يقرر، في جملته، حرية الاعتقاد. من ذلك قوله تعالى مخاطبا رسوله الكريم:"ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" (يونس 99). ويقول سبحانه:"فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ" (الشورى 48). ويقول "فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر" (الغاشية 21/22). ويقول:"وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" (الكهف 29). ويقول تعالى:"إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا. إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا" (الإنسان 2-3). وواضح أن هذه الآيات تقرر حرية الإنسان في الاعتقاد، فهو حر في أن يعتنق الإسلام، لكنه إذا أعرض فليس من حق الرسول أن يجبره على ذلك.
وهنا يمكن أن يعترض معترض بما قاله كثير من المفسرين والفقهاء من أن آية "القتال" قد نسخت الآيات السابقة. وبما أننا قد سبق لنا أن عرضنا رأينا بشأنها في هذا المكان (مقال بعنوان: آيات القتال... والنسخ، والعموم والخصوص. نشر بتاريخ 17-06-2003)"، حيث ناقشناها على ضوء مسألة النسخ والخصوص والعموم، وربطناها بالظروف التي نزلت فيها، وهي ظروف فتح مكة وقتال المشركين من أهلها خاصة، فإننا سنكتفي بالتذكير هنا بالآيات التالية التي نزلت في المدينة وتنتمي إلى عهد آيات التشريع: يقول تعالى: "لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيّ" (البقرة 256). ويذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات متعددة مفادها أن شخصا أو أشخاصا رجعوا عن الإسلام والتحقوا بالنصرانية أو غيرها من الأديان وأراد ذووهم ملاحقتهم وإجبارهم على الرجوع إلى الإسلام، ولما عرضوا المسألة على النبي نزلت الآية:" لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ". هذا من جهة، ومن جهة أخرى ورد في الآيات المدنية قوله تعالى:"ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم" (البقرة217) وأيضا "إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة! (آل عمران 77) ويقول: "كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم بالبينات، والله لا يهدي القوم الظالمين. أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" (آل عمران 86-87). ويقول تعالى:"ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا" (النساء 115). وأيضا: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا" (137).
في جميع هذه الآيات التي نزلت كلها في المدينة نجد أن حكم المرتد، كما يتحدد في سياقها، هو لعنة الله، غضب الله، جهنم، وليس القتل. نعم هناك حديث مروي عن ابن عباس، أساسا، تذكره معظم كتب الحديث، ورد فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم "من بدل دينه فاقتلوه". ودون الدخول في مسألة النسخ مرة أخرى والتساؤل هل تنسخ السنة القرآن؟ نكتفي هنا بذكر النازلة التي ورد فيها هذا الحديث، وملخصها أنه جيء إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأناس مرتدين يعبدون صنما فأحرقهم. فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنتُ أنا لم أُحرِّقْهم، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: لا تعذِّبوا بعذاب الله (يعني النار)، وإنما قتلتهم لقول رسولِ الله صلى الله عليه وسلم:"من