في كافة تجارب الاحتلال وجدت سلطاته من يتعاون معها في داخل الوطن المحتل أفراداً وجماعات. مَثََّل هؤلاء الأفراد وتلك الجماعات دائماً مواقف لأقلية عددية آمنت بجدوى هذا التعاون. باع البعض نفسه ووطنه رخيصاً من أجل منافع ذاتية ضيقة بينما توهم فريق آخر بحسن نية أن التعاون مع الاحتلال يمثل واحداً من طرق النضال ضده والعمل على إنهائه: لا نستطيع قتالهم بسبب الخلل في موازين القوى، ولا نستطيع في الوقت نفسه أن نتركهم يعيثون فساداً في الوطن، ولذلك لابد من التعامل معهم، هكذا روجوا لمنطقهم دائماً. لم يكونوا يدركون حين تملك منهم ذلك الوهم أن التناقض بين المشروع الاستعماري ومصالح الشعوب الخاضعة للاحتلال أمر رئيسي، وأنه لا مجال للحصول على الحقوق إلا بهزيمة الاحتلال عسكرياً أو سياسياً، ولا هم أدركوا أن التعاون مع الاحتلال بدعوى عدم جدوى قتاله لا يمكن أن يكون نضالاً، لأن أولئك المناضلين الذين اعتقدوا باستحالة المقاومة المسلحة للاحتلال أو عدم جدواها لم يتعاونوا مع الاحتلال في أية لحظة، ولم يقلوا مثقال ذرة في عدائهم للاحتلال عن أولئك الذين حملوا السلاح ضده، بل لقد كانت قمة نضالهم السياسي عادةً هي مقاطعة العدو وليس الاتصال به ناهيك عن التعاون معه. ألم يقاطع الشعب المصري لجنة "ملنر" في بدايات القرن الماضي في غمار نضاله ضد الاحتلال البريطاني ليقدم بذلك رسالةً بليغةً للمحتلين لم تقل أهميةً عن ثورته المسلحة ضدهم لاحقاً؟ ألم يناضل "غاندي" بنجاح باهر الاحتلال البريطاني لبلاده بأسلوب المقاومة السلمية؟ ألم يناضل بورقيبة ومحمد الخامس الاستعمار الفرنسي بوسائل سياسية ويتمكنان من انتزاع استقلال بلديهما من براثنه؟ ألم يقاطع الشعب الكويتي وقواه السياسية كافةً الاحتلال العراقي مقاطعةً مطلقةً فكان هذا الموقف نقطة تحول في تقويض ذلك الاحتلال؟ لم يدرك المتعاونون مع الاحتلال أيضاً أن مصالح المشروع الاستعماري تكون دائماً هي الأساس في علاقتهم بالاحتلال، وعندما يتعارض التعاون معهم –أو حتى وجودهم ذاته- مع هذه المصالح لن تتردد سلطات الاحتلال في التضحية بهم على أول قارعة طريق.
جالت في ذهني هذه الخواطر كلها وأنا أتابع مصير أعضاء مجلس الحكم الانتقالي في العراق والحكومة المنبثقة عنه في إطار المرحلة الجديدة من مراحل تطور الأوضاع في العراق. صحيح أنه بقي منهم من بقي في مؤسسات الحكم الجديد "ذي السيادة"، ولكن الكثيرين رحلوا غير مأسوف عليهم في كثير من الأحيان، بل لعل البعض لم ينتبه لرحيلهم أصلاً حيث لم يُعرف لهم دور في العراق لا قبل الاحتلال ولا بعده. تذكرت الغزل المبالغ فيه الذي أخذ البعض يردده في مجلس الحكم الانتقالي وعبقرية تشكيله ودوره كآلية لبناء عراق المستقبل، والإرهاب الفكري الذي تعرض له أولئك الذين حاولوا أن ينبهوا إلى مثالب تلك الخطوة حتى وإن اعترفوا ببعض محاسن لها.
سبق مصير البعض كأفرادٍ مصير مجلس الحكم الانتقالي كمؤسسة، فها هو عميل الأمس الذي تلقى عشرات الملايين من الدولارات من الدوائر الأميركية المعنية قبل وقوع الاحتلال، ناهيك عن اتهامات قانونية محددة في إحدى البلدان العربية بجرائم ذات طبيعة مالية، وكان سبباً في التعجيل بالعدوان على وطنه أو على الأقل تسويقه بما قدم من معلومات مكذوبة عن تسلح بلاده، ودخل وطنه في حماية الحراب الأميركية... ها هو يُطعن من الحراب ذاتها دون أن يُعنى أحد بالتحقق من صحة ما قيل عن سبب الانقلاب المفاجئ عليه: أهو حقاً عمالة جديدة لدولة أخرى لا تجد لها كبير سند من المنطق؟ أم تصديق لوهم "الدور" ومن ثمّ محاولة القيام ببعض تحركات تحمل شبهة الاستقلال عن خطط الاحتلال؟. وها هو الشخص الذي أفادت التقارير بدأب منذ سنوات سبقت الاحتلال بأن ثمة مخططاً أميركيا لوضعه على رأس العراق يُضطر إلى التراجع ومغادرة العراق بعد أن أدرك الأميركيون أن إصرارهم عليه سوف يربك خططهم كثيراً. وها هم الذين توهموا لأنفسهم دوراً يعودون مرة أخرى إلى صفوف المواطنين وقد حملوا أوزار ما فعلته سلطات الاحتلال، ناهيك عن همومهم الأمنية بعد أن أصبحوا مطلوبين محتملين من جماعات المقاومة، فيما أُسقطت عنهم حماية الاحتلال بعد أن اُستنفدت أدوارهم.
لم يقتصر أمر التعاون مع الاحتلال على الأفراد وإنما طال جماعات عراقية بعينها. ربما خطر لبعض قطاعات من شيعة العراق في بداية الاحتلال أن القوات الأميركية يمكن أن تكون مخلصةً بحق في ادعاء نيتها "تحرير العراق"، وأن السياسة الأميركية يمكن أن تكون فاعلاً رئيسياً في بناء عراقٍ ديمقراطيٍ يضمن لمواطنيه حقوقهم المتساوية، ولذا سكت هذا البعض حيناً عن قوات الاحتلال، لكن الأمر الواضح أن غالبية شيعة العراق كانت واعيةً تماماً بأهداف الاحتلال منذ الوهلة الأولى، وإن اتخذت مقاومتها له في البداية الشكل السياسي قبل أن تضيف إليه على النحو الذي حدث في الشهور الأخيرة النضال العسكري، والآن يقف جميع العرب في العراق سنته وشيعته يداً واحدةً ضد الاحتلال وإن اختلفت أساليب