عندما تم اعتقال عبد حميد محمود التكريتي أقرب مساعدي الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين منذ عام، أصيب المسؤولون الأميركيون بالذهول عندما وجدوا بحوزته عدة جوازات سفر صادرة عن جمهورية بلاروسيا ليس له شخصيا فقط ولكن أيضا لغيره من كبار مسؤولي النظام السابق بما في ذلك نجلا صدام عدي وقصي. وعلى رغم مضي عام على القبض على عبد حمود فإن قلق واشنطن بشأن الموضوع لا يزال مستمرا، وهو أمر يمكن تفهمه بالطبع على اعتبار أنه كان من الممكن جدا لكبار مسؤولي النظام العراقي المخلوع وغيرهم الهرب عبر سوريا إلى دولة بلاروسيا المنبوذة دوليا سواء أثناء الحرب أو بعدها.
ودولة بلاروسيا لها سجل في التعاون الوثيق مع الدول المارقة وفي العلاقات السيئة للغاية مع الولايات المتحدة الأميركية. على رغم ذلك فإن واشنطن، وقبل اندلاع الحرب على العراق، تجاهلت الإشارات التي كانت تدل بوضوح على أن بلاروسيا لم تكن أكثر حلفاء العراق في أوروبا من حيث الفعالية والنشاط فقط، ولكنها كانت مستعدة أيضا لتوفير الملاذ الآمن لأركان نظام صدام حسين، على رغم العقوبات المفروضة على ذلك النظام من قبل الأمم المتحدة.
ويمكن القول في هذا السياق إن بلاروسيا كانت هي الدولة الوحيدة في العالم التي كان بإمكان مساعدي صدام حسين المقربين أن يتوقعوا أن يجدوا فيها ملاذا آمنا بمعرفة وموافقة الحكومة. فهذه الدولة- كما هو معروف- هي آخر دولة ستالينية متبقية في أوروبا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي السابق وانهيار المنظومة الشيوعية في بداية حقبة التسعينيات من القرن الماضي، وهي أيضا الدولة التي يقودها زعيم متقلب الأطوار كثير الأخطاء، كان يعتبر حتى الأمس القريب اقرب حلفاء الرئيس العراقي السابق. وهي إلى جانب ذلك أيضا دولة تعتبر- وفقا لما أعلنته الأمم المتحدة- أكبر دولة منتهكة لحظر بيع الأسلحة الذي كان مفروضا على العراق، حيث قامت بشكل سري بمساعدة نظام صدام حسين وتزويده بتقنيات تطوير الصواريخ البالستية، كما قامت كذلك بتزويده بمعدات الدفاع الجوي المتطورة، وتدريب قواته على استخدامها.
ورئيس بلاروسيا الدكتاتور "اليسكندر لوكاشينكو" هو الذي جعل من صدام حسين شريكا عسكريا وسياسيا واقتصاديا رئيسيا لبلاده لدرجة أن وزير الدفاع الأميركي "دونالد رامسفيلد" في شهادته التي أدلى بها أمام الكونجرس عقب وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 قد ذكر اسم بلاروسيا على وجه التحديد باعتبارها الدولة التي يمكن أن تقوم بتوفير المأوى والملاذ لصدام حسين ورجاله إذا ما قرر الفرار من العراق قبل الحرب أو أثناءها.
وعلى رغم أن الشهادة التي أدلى بها "رامسفيلد" في هذا الشأن قد تم تجاهلها إلى حد كبير بواسطة وسائل الإعلام الأميركية المختلفة في ذلك الوقت، وعلى رغم أن "رامسفيلد" نفسه ربما يكون قد نسيها هو الآخر، فإن الذي حدث على أرض الواقع هو أن بلاروسيا قد قامت بزيادة تعاونها ومساعداتها للنظام العراقي إلى حد كبير لدرجة أن النظام العراقي السابق قرر إرسال نجل صدام الأكبر عدي للقيام بزيارة علنية إلى تلك الدولة في شهر مارس من العام الماضي للتعبير عن متانة العلاقة بين البلدين. وكان اندلاع الحرب هو السبب الوحيد الذي حال دون إتمام هذه الزيارة التي أطنبت أجهزة الإعلام العراقية في الحديث عنها في ذلك الوقت. ومع ذلك فإن صدام حسين نجح في إرسال محافظ بغداد في ذلك الوقت عدنان عبد حامد في زيارة إلى بلاروسيا قبل اندلاع العمليات العسكرية كي يقوم بشكل علني وأمام وسائل الأعلام العالمية بتقديم الشكر إلى بلاروسيا على دعمها القوى للعراق، ولكي يقوم بزيارة إلى مصنع للشاحنات يعتقد على نطاق واسع بأنه المصنع الذي قام بتزويد العراق بالسيارات التي جرى تعديلها كي تعمل كحاملات للصواريخ.
وما يدعو للتشاؤم، هو أن بلاروسيا لم تقم حسبما أفادت الأنباء ببيع أسلحة لست دول من ضمن قائمة الدول السبع التي تعتبرها الولايات المتحدة من الدول الراعية للإرهاب في العالم فقط، ولكنها استمرت أيضا في تحدي واشنطن علنا على رغم أن الحرب على الإرهاب لا تزال ماضية على قدم وساق. وإذا ما صحت الأنباء التي تتحدث عن تورط بلاروسيا محتمل في بيع أسلحة لعدد من الدول، فإن معنى ذلك هو أن "لوكاشينكو" لم يكلف نفسه حتى عناء إخفاء المساعدات العسكرية التي يقدمها. وفي هذا الشأن نقل عنه أنه قال: "نحن لن نأبه بأي انتقاد مهما بلغت شدته قد يوجه إلينا في هذا الأمر... وسنعمل على مساعدة الدول عسكريا لأنه قد وعدت- أي الدول- بأن يساعدونا بنفس الطريقة".
ونظرا لأنه يعاني من عزلة دبلوماسية شديدة، فإن "لوكاشينكو" لا يقيم وزنا كبيرا للرأي العام العالمي.
على مدار الأعوام الثمانية الأخيرة حاولت الإدارتان الأميركيتان الحالية والسابقة، وإن كان ذلك بشكل متراخ، إقناع روسيا بالحاجة إلى تغير الأوضاع في بلاروسيا، ولكن روسيا، اختارت عدم القيام باستخدام نفوذها وقوة ضغطها الهائلة على "لوكاشينكو" كي يقوم بتحسين سلوكه الخطر. وكنتيجة لذلك فإننا نجد