يوشكُ الوفاقُ في السودان أن يتحقق بعد مفاوضات دامت سنوات، وبعد حرب بين السلطة والمتمردين دامت أيضاً في مرحلتها الأخيرة أكثر من عقدين. وهكذا فقد جاء الوفاقُ أو التوافق بعد حرب أهلية، وهو إما أن يتطور إلى مصالحة وطنية تحفظ على السودان وحدته، أو ينتهي بالانفصال بين الشمال والجنوب بعد مرحلة انتقالية مدتها ست سنوات، يجري بعدها الاستفتاء على الوحدة أو التقسيم. المطلوب إذن لكي تبقى وحدة السودان، فلا تتضرر حياة ملايين الناس المتشابكين في السكن والمصالح والقرابات، أن تتوافر الإرادة السياسية والنية الحسنة لدى سائر الأطراف. ومع أن ذلك صعب بالسودان بعد الدم الغزير المسفوك، وملايين المهجّرين والمقتلَعين، والفقر المُدْقع، فهو ليس مستحيلاً، لأن الحل كان إفريقيا ًودولياً رعته منظمة الوحدة الإفريقية (لجنة برئاسة كينيا)، ورعته في السنوات الأخيرة الولايات المتحدة، والتي تكفلت بحماية الاتفاق، بالمَونة على سائر الأطراف في القرن الإفريقي، وفي الداخل السوداني، وفي المجال الدولي.
وقد حدث الأمر نفسُه بالجزائر عام 1998 حين صدر قانون الوئام الوطني ليحاول الخلاص من ست سنوات من الاضطراب في ظروف تشبه الحرب الأهلية بين الجيش وقوى الأمن من جهة، والمتمردين الإسلاميين من جهة ثانية. وقد دعتني قبل أيام حركة مجتمع السلم بالجزائر لندوة عن المصالحة الوطنية، في ذكرى مرور عام على وفاة مؤسسها الشيخ محفوظ نحناح، فذكّرني ذلك بأن الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة هو الذي أصدر القانون عام 1998، وربما لهذا السبب جدّد له الشعب الجزائري بأكثرية كبيرة. بيد أنه والحق يقال، فإن الوئام أو المصالحة لم يحدثا، وما تزال التجاذبات السياسية/الأمنية عنيفة وصاخبة، وإن لم يعد المسلحون الإسلاميون مصدر قلق كبير. ولعل في هذا التمييز ما يساعد على بلورة الفوارق بين الحل السياسي والمصالحة الوطنية. فالتفجير حدث نتيجة إبطال الجيش لنتائج الانتخابات التي اكتسحها الإسلاميون، لكن الاضطراب شمل الإسلاميين وغيرهم إذ خرج الجيش من وراء الستار ليحكم البلاد بيد من حديد، ويعطل الحياة السياسية. ومع أن الجيش توارى شيئاً ما أيام بوتفليقة، لكن الحياة السياسية ما وصلت إلى قوامٍ ديمقراطي منفتح، يسمح بتطوير حالة الهدوء النسبي إلى مصالحة مدنية فعلاً، لا تنهي العنف فقط، بل تفتح الأفق على خيارات المستقبل الحر والديمقراطية.
وعندنا في لبنان حالةٌ ثالثةٌ إلى جانب الجزائر والسودان، لتحقُّق التوافق أو الحل السياسي دونما اكتمال للمصالحة الوطنية. استمر النزاع الداخلي في لبنان لخمسة عشر عاماً، وتفاقم مع اجتياح إسرائيلي، وتدخلات عربية شتى بقصد التأجيج أو التوفيق. وعندما حدث الحلُّ السياسي والدستوري عبر اتفاق الطائف أواخر الثمانينيات من القرن الماضي كان عربياً أنجزته لجنة حددتها القمة العربية، ثم إنه جرى بمدينة الطائف حيث التقى النواب اللبنانيون على مدى أربعين يوماً لإنجاز تعديلات الدستور، والتوافق على خطوات المصالحة والوئام. وقد استعادت البلاد سلامها المدني بمساعدة سورية، وجرت عملية إعمارية ضخمة في التسعينيات من القرن الماضي. لكن السلام السياسي ما تحول إلى مصالحة وطنية. وما يزال فريق كبير من اللبنانيين أكثره من المسيحيين، يعتبر نفسه معزولاً، فضلاً عن التدخلات السورية القوية في سائر شرايين الحياة السياسية والاقتصادية للبلاد. ومع أن لبنان يملك تقليدياً حياة سياسية منفتحة، وآليات وأعرافاً للحِراك الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، لكن عدم تحقق المصالحة الوطنية، التي تعني مشاركة سائر الأطراف الاجتماعية والسياسية دونما ضغط أو استبعاد، حال دون تسوية المشكلات القديمة والأخرى التي خلّفتها الحرب، كما أوصل لظهور مشكلات جديدة تكاد تستعصي على الحل بسبب وجوه الاستيلاء على الدولة وتقاسم مؤسساتها والصراع بين الأطراف المشاركة في النظام. ولحسن الحظّ، ليس بالوسع الذهاب إلى أن أزمة النظام اللبناني يمكن لها أن تعيد تفجير النزاع، لكن الأوضاع السائدة تُفوّتُ فرصاً كثيرة وتهدر إمكانيات، وتعطل القدرات التطويرية للبلاد.
حالاتُ لبنان والسودان والجزائر إذن متشابهة من حيث إن الحل العسكري والأمني فاشل، في حين لم يصل الحل السياسي إلى الآفاق الوطنية المرجوة. لكن هناك حالة من النزاع المسلح المستمر في بلدٍ ينتمي إلى الجامعة العربية هو الصومال. فالحرب الأهلية التي اندلعت مطلع التسعينيات ظلت ناراً تحت الرماد تنتظر أول نافخ، في حين فشلت كل محاولات التسوية حتى الآن. فليس هناك حلٌ سياسي فضلاً عن المصالحة الوطنية التي لا تتوافر شروطها الأمنية أو السياسية.
على أن الحاجة للمصالحة الوطنية لا تقتصر على البلدان التي شهدت اضطرابات أمنية أو نزاعات أهلية مسلحة. فهناك دول عربية حدثت فيها اضطرابات أخمدت بالقوة وخلّفت جراحاً يستحيل لأمُها بدون المصالحة: المصالحة بين النظام والناس، وإفساح المجال لكي تتصالح الفئات الاجتماعية فيما بينها. هناك العراق، الذي سطا على الناس في