كثيراً ما يقدم الإعلام العربي، سواء عن وعي أو عن غير وعي، صورةً بعيدة عن الواقع للدولة الصهيونية، تبدو فيها وكأنها وحش كاسر لا سبيل إلى كبح جماحه. فهي تحقق مخططاتها وأهدافها بنجاح على الدوام، وتستمر في ارتكاب جرائمها دون رادع. بل ويصل الأمر بالبعض في عالمنا العربي إلى الحديث عن أن الدولة الصهيونية هي المحرك لسياسات الولايات المتحدة الأميركية وأطماعها الإمبراطورية. إلا إن الصحف الإسرائيلية تقدم في المقابل صورة مغايرة، فالحديث عن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسكانية يكاد يكون موضوعاً ثابتاً في كل الصحف. وهناك مئات المقالات والتحليلات التي ترصد أثر الانتفاضة على المجتمع الاستيطاني الصهيوني، ومدى ما أحدثته من تصدع في كثير من الثوابت التي قام عليها. وهناك من الكتاب الصهاينة من يذهب إلى مدى أبعد فيشير إلى أن المشروع الصهيوني بأسره وصل إلى منتهاه، وأن إعلان وفاته هو مسألة وقت ليس إلا. ومن هؤلاء العلامة مارتين فان كريفلد، أحد أكبر المتخصصين في الاستراتيجية العسكرية في العالم.
وقد وُلد فان كريفلد في هولندا واستوطن في فلسطين عام 1950، ودرس في الجامعة العبرية منذ عام 1971، وهو الآن أستاذ الدراسات العسكرية في قسم التاريخ في هذه الجامعة، كما حاضر في عدة معاهد استراتيجية عسكرية ومدنية في العالم الغربي. وقد ألَّف خمسة عشر كتابا في التاريخ والاستراتيجية العسكرية.ومن أهم مؤلفاته: قيادة في الحرب (1985). تموين الحرب (1977). السيف والزيتون (1998). و من الواضح أن شارون متأثر بفكره كما يتضح من مقابلة أجراها معه الصحفي غيورا أيالون في صحيفة إمتساع خضيرة (8 مارس 2002)، ونُشرت تحت عنوان "إسرائيل ستتفكك".
ينطلق البروفيسور مارتين فان كريفلد من الاعتقاد بأن صراع الصهاينة مع الفلسطينيين صراع خاسر منذ الانتفاضة الأولى، وأنه سيؤدى إلى نهاية إسرائيل. ويدلل كريفلد على وجهة نظره بالإشارة إلى التجربة النازية، ومدى البطش الذي استخدمه النازيون لقمع حركات المقاومة في أوروبا. فلم يكن النازيون، على حد قوله، يأبهون بالإعلام أو بالرأي العام العالمي، وكانت لديهم أكبر منظمة إجرامية شهدها التاريخ الإنساني، فضلاً عن زعيم لم يستنكف عن استعمال أية وسيلة. وكانت القوات النازية تفوق ضعف الجيش الإسرائيلي من حيث العدد، ومع ذلك يلاحظ كريفلد أنهم "هُزموا في نهاية الأمر. ومن الصعوبة بمكان أن نجد جيشاً نظامياً نجح في مواجهة انتفاضة كالتي نواجهها... ما يحدث معنا اليوم حدث مع الأميركيين في فيتنام، ومع الجيش الإسرائيلي في لبنان، ومع الروس في أفغانستان، وهذا ما سيحدث معنا مرة أخرى، وهذا ما سيحدث مع الأميركيين في أفغانستان".
ولا يمكن بالطبع اتهام كريفلد بأنه متعاطف مع المقاومة الفلسطينية، أو مبالغ في التفاؤل بشأن قدراتها. فموقفه ينبع من الرغبة في إنقاذ الدولة الصهيونية مما يراه مصيراً سوداوياً، ولكنه يدرك في الوقت نفسه أن الفلسطينيين هم الطرف الذي يتمتع بكل الإيجابيات في الصراع الدائر، لأن الإسرائيليين يقاتلون في ملعبهم، بينما يقاتل الفلسطينيون من أجل الحرية، ومقاتلو الحرية دائماً ينجحون، ولذلك ليس أمام الجيش النظامي الذي يواجههم إلا الفشل حتى وإن نجح في إحباط بعض عمليات المقاومة.
ومرة أخرى، يستشهد كريفلد بما حدث مع الأميركيين في فيتنام، حيث "ألقوا ستة ملايين طن من القنابل على فيتنام ولم يساعدهم هذا الأمر كثيراً... لا يمكن لأي حصيف أن يدخل في مواجهة كتلك، وإذا دخلها فعليه أن يجد الطريق بسرعة للخروج من وحلها. وقد دخلت إسرائيل في مواجهة خاسرة ضمناً، وهذه المواجهة ستقضي علينا".
ويرى كريفلد أن لدى الفلسطينيين قدراً كبيراً من الثقة بالنفس، على عكس الإسرائيليين الذين تردت أوضاعهم خلال السنوات المنصرمة، وبات مصيرهم يقترب شيئاً فشيئاً من مصير الجنود السوفيت في أفغانستان، والفرنسيين في الجزائر.
ويؤكد فان كريفلد أن ارتفاع عدد الضحايا من الفلسطينيين عن مثيله في صفوف الإسرائيليين لا يُعد دليلاً على انتصار الدولة الصهيونية، ويبرهن على ذلك بالعودة إلى أحداث الصراعات المماثلة. فقد قُتل 50 ألف أميركي مقابل ثلاثة ملايين فيتنامي، وقُتل عدة آلاف من الفرنسيين مقابل مليون جزائري، ومع ذلك فقد كان النصر في النهاية من نصيب الفيتناميين والجزائريين.
ويسوق كريفلد عدة مؤشرات على تردي وضع الجيش الإسرائيلي، إلى درجة أنه يؤكد أن مثل هذا الجيش لا يستطيع أن يخوض حرباً مثل حرب عام 1973، حيث سيفضل أغلب أفراده أن يولوا هاربين من المواجهة. ويرى كريفلد أن ظاهرة رفض الخدمة في صفوف الجيش الإسرائيلي دليل على أن الجيش في حالة تفكك، ولكنه يضيف أن هذا قد يكون أفضل تطور للصهاينة لأنه قد يضطرهم إلى الخروج من الأرض المحتلة.
وفيما يتعلق بقيادات الجيش، يذهب كريفلد إلى أن الأوضاع "تحوّل القائد إلى غبي وكل عمل سيقوم به، وكل قرار سيتخذه لن يجدي نفعاً... حتى يصل به الأمر إلى الشعور بأنه إذا اتخذ قراراً