"عندما تخرجت من الجامعة.. وقبل أن أخطو خطواتي الأولى على درب الحياة العملية.. حددت لنفسي هدفا هو أن أقوم بتأليف كتاب يحدث صدى كبيرا. وهأنذا الآن أفي بالعهد الذي قطعته على نفسي، وأقدم لكم قصة حياتي التي لا أعرف حقا ما إذا كانت ستحدث صدى كبيرا كما أتمنى أم لا؟.. ولكنني أرجو مع ذلك أن تنال رضاكم في جميع الأحوال". العبارات السابقة مقتطعة من الكلمة التي ألقاها بيل كلينتون بمناسبة نشر مذكراته الجديدة التي ستصدر في موعد لاحق خلال الشهر الجاري تحت عنوان (حياتي). في هذه المذكرات التي يتوقع أن تحظى باهتمام كبير، يقدم بيل كلينتون الرئيس السابق- والمؤلف الحالي - أداء متميزا كالعهد به دائما في كل المهام التي اضطلع بها في حياته، سواء أثناء فترة الثماني سنوات التي أمضاها في منصبه كرئيس للولايات المتحدة، أو قبل ذلك خلال فترة توليه لمنصب المدعي العام بولاية أركنساس أو منصب الحاكم فيها.
عاش ويليام جيه. كلينتون طفولة تعيسة وذلك بعد أن توفي والده في حادث سيارة مأساوي قبل ولادته بثلاثة شهور في التاسع عشر من أغسطس 1946 بولاية أركنساس. وللتغلب على ظروفه الصعبة عمل كلينتون على أن يكون دائما طالبا متفوقا في دراسته كما كان بالإضافة إلى ذلك عاشقا للموسيقى وللعزف على آلة الساكسفون بالذات التي أتقن العزف عليها إلى درجة دفعته للتفكير في احتراف الموسيقى. والنقطة المضيئة في حياة كلينتون الصبي- كما يقول- تمثلت في لقائه في حديقة البيت الأبيض مع الرئيس الراحل جون كينيدي وهو اللقاء الذي يصفه بأنه اللقاء الذي دشن دخوله لحقل الخدمة العامة فيما بعد بل ولدخول البيت الأبيض بعد ذلك بسنوات عديدة.
تخرج كلينتون من جامعة جورج تاون وحصل على منحة للدراسة في جامعة أكسفورد. وبعد ذلك التحق بجامعة ييل العريقة وحصل منها على درجة في القانون ثم دخل بعد ذلك المعترك السياسي في ولاية أركنساس. وفي جامعة ييل تعرف كلينتون على الفتاة هيلاري رودهام التي تزوجها وأصبحت تعرف فيما بعد باسم هيلاري كلينتون. بدأت حياة كلينتون العملية بداية متعسرة بعد أن أخفق في دخول الكونجرس كنائب عن الولاية، بيد أنه انتخب فيما بعد في منصب النائب العام فيها ثم خاض السباق الانتخابي لتولي منصب حاكم الولاية وفاز به وتولى المنصب عام 1978. وفشل كلينتون في التجديد لفترة أخرى تمتد لأربع سنوات، ولكنه عاد وتولى المنصب بعد ذلك التاريخ بأربع سنوات كاملة وظل فيه حتى قرر دخول انتخابات الرئاسة الأميركية ضد جورج بوش الأب وتمكن من إلحاق الهزيمة به وتولي منصب رئيس الولايات المتحدة عام 1992.
وفترة حكم كلينتون الذي يعتبر الرئيس الثاني والأربعين في التاريخ الأميركي، استمرت لفترتين متتاليتين (أول زعيم ديمقراطي يتولى الحكم لفترتين منذ الرئيس فرانكلين دي. روزفلت). وقد تميزت هذه الفترة بالنمو الاقتصادي المذهل الذي لم تشهد له أميركا مثيلا في تاريخها، كما شهدت أقل نسبة بطالة خلال عقود، وأقل نسبة تضخم خلال الثلاثين عاما السابقة عليها، وتميزت بالاكتشافات التقنية الهائلة والإنجازات السياسية الخارجية بالغة الأهمية التي ليس أقلها أهمية توقيع (اتفاقية النافتا) أو اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية، وإقناع حلف الأطلسي بضم بعض الدول التي كانت ضمن حلف وارسو السابق، والمساعدة على انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية. بيد أنه يتعين القول هنا إن الفترة التي أمضاها كلينتون في البيت الأبيض لم تكن فترة إنجازات وأعمال باهرة فقط، ولكنها كانت إلى جانب ذلك فترة شهدت سلسلة من الأخطاء والفضائح التي كان أبرزها ما عرف بفضيحة المتدربة في البيت الأبيض مونيكا لوينسكي، وما تلاها من محاكمات لإدانة الرئيس. ويعتبر كلينتون ثاني رئيس في التاريخ الأميركي بأسره تتم إدانته بواسطة مجلس النواب وهو لا يزال في سدة الحكم. وعلاوة على ذلك تمت محاكمة كلينتون في مجلس الشيوخ أيضا ولكن المجلس قام بتبرئته من التهم المنسوبة إليه، وبعدها تقدم كلينتون باعتذار إلى الشعب الأميركي طالبا منه أن يغفر الأخطاء التي وقع هو فيها.
وبيل كلينتون الذي ترك الرئاسة في سن صغيرة (53 عاما) لا يزال حتى الآن وعلى رغم مضي أربع سنوات تقريبا على خروجه من السلطة، رجلا يجتذب الأنظار، ويحظى بحضور قوي على الساحة الدولية، وخصوصا بعد أن قام بتكوين ما عرف باسم (مؤسسة ويليام جيه. كلينتون الرئاسية) التي تقوم بدعم الجهود الساعية إلى مقاومة مرض نقص المناعة البشري/ ومتلازمة نقص المناعة المكتسب، وتسعى لحل النزاعات العرقية والجنسية والدينية الحالية والمستقبلية في العالم. وأكثر ما تمتاز به المذكرات الجديدة لكلينتون هي صراحتها المدهشة وتقديمها لصورة شديدة الوضوح لزعيم قرر منذ بداياته المبكرة تكريس مواهبه الثقافية والسياسية وقدرته غير العادية على العمل الشاق من أجل خدمة شعبه. وعلاوة على ذلك تعتبر تلك المذكرات هي الأكثر تفصيلا، والأكثر دقة، بين جميع المذكرات التي كتبها الزعماء الذين حكموا أميركا على مد