بسبب عمله الأكاديمي، وتخصصه في مجال التاريخ والدراسات الشرق أوسطية، وبفعل إسهاماته ومؤلفاته المثابرة عن الإسلام والحضارة العربية الإسلامية، أصبح برنارد لويس حجة ومرجعا لا غنى عنه في الغرب، في كل ما يتصل بالدراسات الإسلامية والشرق أوسطية. وتأكيدا لهذه المكانة كتبت عنه كبريات الصحف الأميركية (نيويورك تايمز، وول ستريت، بالتيمور صن وغيرها) واصفة إياه بنعوت شتى، إلا أنها تنصبه جميعا، عميدا أو أكاديميا في الصف الأول من الباحثين في مجال الدراسات الشرق أوسطية والإسلام على المستوى العالمي. في هذا الكتاب "من بابل إلى المترجمين: في تأويل الشرق الأوسط"، قدم المؤلف ما يشبه العرض البانورامي الشامل، لمجمل أحاديثه وكتاباته الصحفية وأفكاره الأساسية ذات الصلة بموضوع الكتاب، خلال الأربعة عقود الماضية. وتكاد تغطي هذه المقالات والموضوعات، كافة القضايا الشرق أوسطية: من التاريخ العثماني في العصر الوسيط، مرورا بجذور النزاع الإسرائيلي الفلسطيني في العصر الحديث، وكل ما يقع بين هاتين النقطتين التاريخيتين.
أما من ناحية التبويب والعرض، فقد وزعت هذه المقالات على ثلاثة فصول أو أبواب رئيسية هي: تاريخ العصور الماضية، التاريخ المعاصر، ثم تأملات في علم التاريخ، في علاقته بالمنطقة الشرق أوسطية. وإذا كان كتاب برنارد لويس الشهير: ما الخطأ الذي حدث؟ يعد من أكثر مؤلفاته مبيعا وأكاديمية، فإن كتابه الحالي الذي نعرضه، يعتبر هو الآخر من أكثر مؤلفاته جودة ورصانة أكاديمية. بل إن هناك من رأى فيه مؤلفا أكثر غنى من الناحية الأكاديمية والبحثية، مقارنة بكتابه سابق الذكر. فعلى سبيل المثال، خذ دراسته وملاحظاته القيمة في هذا الكتاب حول الاختلاف والتباين بين علاقة كل من المسيحية والإسلام بالتراث اليهودي وباليهودية كلها كديانة. فرأي برنارد لويس أن الزاوية الوحيدة التي تنظر منها المسيحية إلى اليهودية، هي أن تحل المسيحية محل الديانة الأخيرة. أي أن العلاقة بينهما هي علاقة تنافر وتضاد، لا سبيل لتجاوزها، إلا بإزاحة الديانة الأولى للثانية. أما بالنسبة لعلاقة الإسلام باليهودية، فيقول برنارد لويس، إن الإسلام يبدو أكثر ثقة بمقدرته على استيعاب التراث اليهودي، وتضمينه لنظامه العقيدي. ثم خذ مثالا لأكاديمية هذا الكتاب، مقالته حول أصول الدعائية في الدول العربية. يعود الكاتب لتأكيد بعض أفكاره المحورية التي تنتظم معظم ما كتب في تاريخ المنطقة: عجز الفقهاء والمفكرين الإسلاميين عن تحديث دينهم، وحتمية الصدام بين الحضارتين الغربية والإسلامية.
ولما كان الكاتب أحد المهندسين الفكريين للحرب التي شنتها الولايات المتحدة الأميركية على العراق العام الماضي، فإنه من الطبيعي أن يهتم القراء بالتعرف على ما يجب على الغرب أن يفعله، بغية تحقيق التحولات المأمولة في منطقة الشرق الأوسط. لصدمة القارئ ودهشته، يجيب المؤلف على ذلك السؤال بقوله: النزر القليل جدا! المؤسف أن هذا الإجابة ظلت كما هي. ولكن حذار من الاستعجال لإصدار الأحكام السريعة وغير الناضجة عن المؤلف. فالإجابة أعلاه، لا تعود إلى عام 2003 أو العام الجاري 2004، بل هي نفسها إجابته التي كان قد أدلى بها في عام 1957. ولكن يبقى المأخذ على عدم تحديثها ضمن منظومة الأفكار الواسعة الحديثة التي طرحها المؤلف في كتابه الحالي. فمن بين عناوين المقالات التي يحويها الكتاب نجد مثلا: الثورة الإيرانية، دولة إسرائيل. وهاتان المقالتان تعدان بعيدتين نسبيا عن التاريخ المعاصر القريب. ولكن ماذا عن مقالات أخرى تحمل عناوين مثل: ما فعله صدام حسين، تفكيك أسامة بن لادن ودعوته الشريرة، تغريب الشرق الأوسط على رغم طبيعته، أعداء الله .. إلى آخره. وتشمل هذه المقالات بعض أعماله المنشورة في الصحف والمجلات مثل صفحات صحيفة نيويورك تايمز الخاصة بعرض الكتب، ومجلة إنترناشونال أفيرز، وغيرهما. كما شملت بعض أعماله التي لم تنشر، لا في شكل المقال ولا الكتاب، ولا الدراسة.
إذاً لا يوجد هناك مبرر لعدم تحديث المقالة المشار إليها آنفا، لا سيما وأن المطروح على الساحة- من وجهة النظر الأميركية خاصة- هو في الأساس ليس ما يجب على الغرب، بل على الولايات المتحدة الأميركية تحديدا، أن تفعله في سبيل إنجاح مشروع التحول الجذري الذي تهدف إليه في المنطقة. ذلك أن مشروع الشرق الأوسط الكبير، هو الفكرة المحورية التي لم تكن الحرب على العراق، سوى مقدمة لها لا أكثر. كان تطوير المقال في ضوء التطورات اللاحقة للحرب، سيضيء أفكار الكاتب كثيرا، ويعرف القارئ بموقف المؤلف من هذه التطورات، والآفاق المستقبلية التي يرتئيها للمنقطة وفق حقائق الواقع العينية، وليس اعتمادا على التجريدات النظرية المثالية التي ذهب إليها بعض المحللين والمفكرين خلال المرحلة السابقة لشن الحرب. وفي ظني أن القارئ المهتم بكتابات برنارد لويس، سيطرح مثل هذه الأسئلة على نحو أكثر إلحاحا وتشوقا، مما فعلته هنا في هذا المقال المقتضب عن الكتاب.
وقفة أخرى مع الكتاب