سيادة العراق منوطة بالعراقيين، ولا أساس لإعلان الرئيس الأميركي أنه ينوي منح العراقيين السيادة الكاملة لأنه لا يملك أن يمنح ما لا يملك. هذا الكلام لم يصدر عن رجال المقاومة في الفلوجة والكوفة، والعراقيون، والحمد لله ليسوا أصحاب كلام، بل ذكره علماء القانون الدولي وتداولته وثائق سلطات الاحتلال ومناقشات الكونغرس الأميركي. وهنا يكمن السبب الحقيقي لترنح زعامات الاحتلال وتهافت قراراته، وسرّ تخبطات إدارة جورج بوش، التي كلّفت العراقيين والأميركيين عشرات الآلاف من القتلى والجرحى وعشرات المليارات من الدولارات. فالسيادة من وجهة نظر القانون الدولي ومن الناحية الفعلية منوطة بالعراقيين، الذين يمارسونها بغض النظر عمّا يطلق عليهم من تسميات، كمقاومة ومجاهدين، أو شقاة متمردين، أو ميليشيات ومتسللين.
ويقرّ السير آدم روبرتس، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة أوكسفورد بزيف الادّعاء بأن السيادة ستُسلّم للعراقيين في الأول من الشهر القادم، فالسيادة كانت دائماً، حسب اتفاقية جنيف لعام 1949 والقوانين الدولية المرعية الخاصة بالاحتلال منوطة بالعراقيين. وكل ما تملكه الولايات المتحدة وحلفاؤها هو الإدارة المؤقتة للعراق، طبقاً لتأكيدات السير آدم، وهو مؤلف كتاب "وثائق حول قوانين الحرب" Documents on the Laws of War الذي صدرت طبعته الثالثة أخيراً في لندن.
وسيادة العراق هي الأساس الذي يقوم عليه قرار مجلس الأمن الجديد حول العراق وقرارا 1483 و1511 الصادران في العام الماضي. وكل ما سيحدث في نهاية الشهر الحالي هو نقل السلطة الإدارية للحكومة المؤقتة والإنهاء الشكلي للاحتلال. هل تملك الحكومة المؤقتة سلطة الطلب من قوات الاحتلال مغادرة البلاد؟ الجواب على ذلك رهن بإرادة الغائب الأكبر عن مفاوضات مجلس الأمن، وهو الشعب العراقي، الذي تدين له بالوجود هذه الحكومة الانتقالية وسلطة الحكم البائدة قبلها وما سيأتي بعدها. فالسيادة للشعب العراقي، وهو الذي يمنح الشرعية القانونية والواقعية لأي وضع ونظام. ولولا قوى الشعب العراقي المسلحة، التي سجلت رقماً قياسياً في التاريخ بسرعة تشكيلها عقب الاحتلال مباشرة ما كان أعضاء سلطة الحكم الانتقالية ومجلس وزرائها البائد سيحصلون على أكثر من وظيفة مستشارين، التي تفضلت عليهم بها الإدارة الأميركية "الظافرة". ومع نهاية الاحتلال نهاية الشهر الحالي لن تنال الوزارة المنتقاة تحت ظلال الدبابات الأميركية سوى سلطة شكلية. فالسلطة الشرعية في يد الشعب العراقي، الذي يملك، حسب قوانين الحرب والاحتلال حق مقاضاة المحتلين قانونياً وفعلياً عن أية تجاوزات وجرائم تُرتكب على أراضيه. ولا تملك مواثيق الحكومة الانتقالية أهمية شرعية. المرجع هنا للواقع القائم وليس لليافطة المعلقة في المنطقة الخضراء. ولا يمكن التعلل بسلطة الحكومة الانتقالية للادعاء بأن النزاعات المسلحة الحالية شأن داخلي. فاتفاقية جنيف ستظل سارية المفعول، بما في ذلك نصوص فقراتها، التي تُحرّم المعاملة القاسية للسكان وتجرّم تعذيبهم. ولن يعفي أي قرار تصدره الحكومة الانتقالية قوات الاحتلال من المساءلة وفق القوانين الدولية.
وإذا كان القانون، الذي يقارنه العراقيون ساخرين بآلة القانون الموسيقية "يعزفون عليه في الليل وينسونه في النهار" فإن الواقع العملي غير خاضع للعزف. والسيادة بحكم الواقع منوطة بالعراقيين، والسلطة رهن قواهم المسلحة. و"أهلاً بكم في جمهورية الفلوجة الحرة". ذكر ذلك مقاوم عراقي لمراسل صحيفة "فاينانشيال تايمز" البريطانية، الذي دخل المدينة تحت حماية المقاومة. نقل المراسل عن أحد زعماء المقاومة المجهولين قوله: نحن ندير المدينة الآن ولن يدخلها أي أميركي أبداً. وفي الفلوجة تعلّم أفراد البحرية، الذين يُعتبرون فخر القوة العسكرية الأميركية، التحدث باحترام عن المقاومين وتسميتهم بالعربية مجاهدين، ودفع مرتبات لهم مقابل عدم إطلاق النار عليهم. صرّح بذلك للصحيفة البريطانية ضابط وحدة البحرية الأميركية المرابطة خارج الفلوجة. والمدينة واقعة بالكامل تحت سيطرة فرقة الفلوجة العسكرية، التي يرتدي أفرادها اللباس العسكري العراقي ويحملون علم العراق الرسمي المزيّن بعبارة الله أكبر. وممارسة سكان الفلوجة للسيادة على مدينتهم ليست هبة من أحد بل اكتسبوها بأكثر من 600 شهيد، واعترف بها الأميركيون بعد أن دفعوا 70 قتيلا من أفراد البحرية وما لا يُذكر عدده من الجرحى. وتعهدّت القوات الأميركية، حسب "الفاينانشيال تايمز" بدفع مبلغ 650 مليون دولار للتعويض عن تدمير 2000 منزل وقتل وجرح وتشريد الآلاف من سكان المدينة، وفق قوائم أعدّها المهندس المدني في الفلوجة عبد الرزاق الضاري.
قد يُعتبر من قبيل المبالغة مقارنة المراسلين الأجانب مدينة الفلوجة بستالينغراد في روسيا، التي شكلت بداية هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، لكن الحقيقة التي يبالغون فعلاً في إخفائها هي أن الفلوجة الجزء الظاهر من جبل السيادة العراقية الغاطس تحت مياه الاحتلال ال