أنهى مؤتمر الإصلاح والديمقراطية الذي عقد بالدوحة الأسبوع الماضي جلساته بإعلان الدوحة الذي تضمن أحد عشر مطلباً حيوياً لتأكيد قضايا الإصلاح، وإرساء النظم الديمقراطية وفتح أبواب الحريات لتأسيس الأحزاب والنقابات وصياغة دساتير تحترم المشاركة السياسية، وتقدر حقوق الناس، بما في ذلك حق تداول السلطة، وإبعاد القوات المسلحة في كل دولة عربية عن التدخل في السياسة وأن يكون واجبها الأساسي هو حماية الوطن وألا تكون أداة في يد الحاكم أو النظام للعبث بالدستور والإخلال بالقانون.
مطالبات رائعة، وآمال جميلة، إن وصل إليها المجتمع العربي، سيكون هو "الفردوس المفقود"، ويعيش إنسان هذا الوطن حياة أهل سويسرا أو لندن فيما يتعلق بالعلاقة السياسية بين النظام والمواطن، أو من حيث الحقوق المدنية، أو خلق المؤسسات الداعمة لحقوق الإنسان أو حق المرأة في العيش ضمن إطار متساوٍ مع الرجل على كافة المستويات. لكن الإشكالية التي سوف يواجهها تطبيق تلك الأماني الرائعة هي واقع الوطن العربي. ونحن إذ نتناول هذا الواقع، لا ننطلق من رؤية تشاؤمية، أو نظرة سلبية، بقدر ما نحاول تفعيل رؤية العقل، ورصد هذا الواقع بروح من المسؤولية التي تجعل اصطدام الرؤى التنويرية لأبناء الأمة المخلصين مع ذاك الواقع أمراً بالغ الوضوح.
ولقد جاء في ديباجة الإعلان المذكور "نحن نعني بالديمقراطية تمكين المواطنين من انتخاب دوري لمن يمثلهم في وضع القوانين المسيّرة للمجتمع بحرية تامة، تواكبها حرية ملكية الإعلام وضمان حقوق الإنسان والتداول السلمي على السلطة··· إلخ"·
إن واقع السلطة في العالم العربي مؤلم وقاس، ولا يمكن لأي مواطن الحديث عن "مثالب" هذا الواقع وإلا كان مصيره مجهولاً! إذ كيف يتحدث المواطن عن تداول سلمي للسلطة والحاكم يحكم البلاد ثلاثين عاماً - ولو كان قد جاء عبر الدبابة- وكأن لديه صكا إلهيا يخوله حكم الناس مدى الحياة. كما أن الانتخابات الدورية المذكورة، كثيراً ما اصطدمت بخلل صناديق الاقتراع التي لا تحيد عن 99.99% لصالح الحزب الحاكم الذي ينتمي إليه الحاكم!
وكثيرا ما تكونت مجالس ممثلي الشعب من "أهل الحظوة" الذين يستأجرهم النظام ليضمن ولاءهم، وعدم اعتراضهم على تصرّف الحاكم أو حاشيته أو وزرائه. نحن نعيش واقعاً عربياً جد مختلف عن واقع الأنظمة الديمقراطية في العالم. ولعل ما تفكر فيه النُّخب، وكثير منها، مغيّبٌ عن القرار وعن الاهتمام بل إن بعض هذه النُّخب منفيٌ في داره، بعيد جداً عما يدور في ذهن الحاكم أو النظام، وأسهل ما يمكن أن تُقذف به هذه النخب - رغم نقاء وطُهر طروحاتها- أنها علمانية أو مشاغبة تهدف إلى زعزعة الأمن والاستقرار، وبالتالي يتم "تلبيسها" التهم دون وجه حق، وإن أتت تلك التهم عبر النائب العام، أو ديمقراطية القضاء!
وأغرب، وربما أجمل ما جاء في المادة (أولاً) من الإعلان المذكور هو طبيعة النظم العربية. حيث تدعو المادة إلى تحول الأنظمة الملكية إلى ملكيات دستورية، يتم الفصل فيها بين "الملك الوراثي"، والسلطة التنفيذية، بحيث يكون الأول رمزاً للدولة، أما الثانية فهي أن رئيس الحكومة مُنتخب ويختاره الشعب دورياً ويتم تغييره هو وحزبه سلمياً من خلال الاقتراع الشعبي··· إلخ·
نحن نأمل أن يصل شعب من الشعوب العربية إلى هذا المستوى من الشفافية بينه وبين النظام. وأن تتحول النظم العربية إلى ممالك دستورية، يكون الحاكم فيها رمزاً محترماً، له مكانته واستمراريته دون أن يتدخل في أمور السلطة التنفيذية. ولكن مَنْ مِنْ الحكام العرب سيبدأ هذه الفضيلة أو المغامرة؟ ومن منهم سيأتي برئيس للوزراء، ليس من عائلته أو من أهل حظوته أو قبيلته؟ ومَن مِن رؤساء الوزراء - الذين يظل بعضهم طوال سني حياته أو حتى يغضب عليه الحاكم- سيرضى بالتنحي من أجل مواطن آخر قد لا يجد طعام يومه لكنه صاحب رؤى صالحة للحكم وإدارة شؤون البلاد؟ أنا أتوقع أن يتحول تغيير رئيس الوزراء - ضمن واقعنا العربي- إلى حرب أهلية يموت فيها الحاكم أو رئيس وزرائه. إذ أن أنظمة الحكم العربية لم تتعود على التعددية، والحاكم العربي لا يريد إلا أن يرى صورته لوحده في الصحف والتلفزيونات. بل إن لديه حساسية من صور المواطنين العاديين، فما بالكم لو قُيض لأحد المواطنين المؤهلين التقرب إلى الوزارة والوقوف بجانب الحاكم "المهيب" أو "المُفدى"!
هنالك مطالبة - في الإعلان- بتعديل الدساتير فيما يتعلق باختيار رئيس الجمهورية، تقضي بأن يكون بالاختيار عبر انتخابات تنافسية مباشرة وتقليص صلاحيات وسلطات رئيس الجمهورية، ووجود آليات محاسبة ومراقبة رئيس الجمهورية.
نقول: يا ريت! مُطالبة جميلة ورائعة، ولكن من يجرؤ على إيصالها إلى رئاسة الجمهورية أو الديوان الملكي وغيره من مقار الحكم؟ ومن يستطيع أن يفرض على الحاكم تقليص صلاحياته وتحديد سلطاته، وأي حاكم سيقبل بوجود رقابة على تصرفاته وأحياناً "استحكاماته" بمقدرات الوطن أو ثرواته؟
هذا إذا علمنا أن بعض الدساتير تضع الحاكم في منزلة ليس