خطوة كبيرة إلى الأمام باتجاه استعادة سيادة العراق الكاملة، وإعادة بناء نظامه السياسي والاجتماعي على أساس ديمقراطي. نجح العراقيون في اختيار تشكيلة ملائمة ينتقلون بها من عهد الاحتلال القصير، إلى بداية عصر استقلال حقيقي ربما لم يتمتعوا به أبداً من قبل، وخصوصاً منذ أن اغتصب العسكر السلطة التي وقعت في النهاية بين يدي عائلة يقف على رأسها حاكم لم ينافسه في الوحشية والقسوة والدموية طول القرن العشرين إلا زعيم "الخمير الحمر" في كمبوديا "بول بوت".
وعلى رأس هذه التشكيلة، يقف رجلان كان من حسن طالع الشعب العراقي أن اختيرا لرئاسة الدولة والحكومة وهما الرئيس غازي الياور ورئيس الوزراء الدكتور إياد علاوي.
فالأول سني ليس هناك أقرب إلى الشيعة منه بحكم انتمائه وموقعه في عشائر شمر العريقة، التي تتميز بوجود فروع سنية وأخرى شيعية فيها. والثاني شيعي ليس أقرب إلى السنة منه بحكم قيادته لحزب سياسي "حركة الوفاق الوطني" يضم في صفوفه من السنة مثلما يحوي من الشيعة. فهو لا يميز بين الطوائف والأعراق انطلاقاً من اتجاهه العلماني المعتدل، الذي يحترم الدين وينهل من قيمه ومبادئه السامية، دون أن يجعله تجارة سياسية يربح من ورائها على حساب الوطن والشعب بل الدين نفسه. وهو، فضلاً عن ذلك، الأقدر على إعادة دمج البعثيين والعسكريين العراقيين السابقين الذين لم يرتكبوا جرائم، ولم تتلطخ أيديهم بدماء أبناء شعبهم، ولم يسرقوا وينهبوا اعتماداً على حماية النظام السابق لهم.
وفوق هذا كله، يتمتع الياور وعلاوي بعلاقات طيبة مع مختلف الفعاليات الكردية والتركمانية والآشورية.
وهما، على هذا النحو، خير من يضمن تكامل مختلف مكونات المجتمع العراقي المتعدد والمتنوع، وبالتالي إبعاد شبح الاقتتال أو الحرب الأهلية. وهذا شبح كان يلوح من بعيد في سماء بلاد الرافدين. ولم يكن في استطاعة أحد أن ينفي خطره كلياً، أو يجزم بأنه ليس أكثر من خيال لا أصل له البتة بمن في ذلك أكثر المتفائلين بمستقبل العراق وقدرة شعبه على عبور أكبر المحن.
الآن، فقط، يجوز أن نطمئن إلى أن هذا الشبح البغيض يبتعد، وأن نأمل في أن يتمكن الرجلان والحكومة الجديدة -الأوسع تمثيلاً مقارنة بسابقتها- من تبديده نهائياً. فعندما ظهر الياور وعلاوي جنباً إلى جنب في أول أيام الشهر الجاري خلال احتفال تنصيب الحكومة المؤقتة التي ستتسلم السيادة من سلطة الاحتلال في آخر أيام الشهر نفسه، كان هذا المشهد هو الأهم على الإطلاق منذ مشهد إسقاط أصنام الرئيس السابق يوم 9 أبريل من العام الماضي.
كان مخاض تسمية الرئيس العراقي الجديد صعباً، مقارنة بعملية اختيار رئيس الحكومة، التي تمت في يسر بالرغم من أن الثاني الذي لم يحدث خلاف يذكر عليه هو الرئيس الفعلي للسلطة التنفيذية، فيما لا يتمتع الأول بأكثر من صلاحيات محدودة. ولكن يبدو أن كلمة "الرئيس" لها وقع آخر في العقل العربي حتى إذا كان دوره رمزياً أو يكاد. ولم تثر صعوبات مخاض تسميته قلقاً بالغاً إلا عندما لوح الحاكم المدني الأميركي بول بريمر، الذي يستعد للرحيل الآن، بطرح أسماء غير المتنافسين الاثنين (الياور وعدنان الباجة جي) اللذين يبزّ كل منهما الآخر قدرة ووطنية وتفانياً في حب العراق. ولكن بالرغم من تساويهما في كثير من المناقب، يظل الياور هو رجل مرحلة استعادة السيادة والشروع في بناء العراق الجديد، لأنه الأقدر على تحقيق الاندماج الاجتماعي-الطائفي الذي حدث فيه شرخ كبير خلال عهد النظام السابق الذي خلق حالة من الكراهية المتبادلة بين مكونات المجتمع العراقي.
فالرئيس الياور الذي ينتمي إلى السنُّة هو أكثر من يطمئن أبناء مناطق وسط وغرب العراق الذين اشتد قلقهم من تحميلهم جريرة النظام السابق وتهميشهم في ظل النظام الجديد. ولذلك كان سهلاً على المجموعات التي تمارس العنف المنظم عراقية كانت أم أجنبية، أن تجد من يحتضنها من سكان هذه المناطق ويوفر لها ما يعرف في أدبيات حرب العصابات بالملاذ الآمن الذي يمثل لها ما يمثله البحر بالنسبة إلى السمك، وفق تعبير الزعيم الصيني الراحل "ماو تسي تونغ" في نظريته عن هذا النوع من الحرب.
فعشائر شمر تمتد في معظم أنحاء العراق وتتميز بدرجة عالية من التماسك. ولذلك لم يكن مدهشاً أن تحتضن تكريت مسقط رأس الرئيس السابق أحد الاحتفالات الأولى التي أقيمت ابتهاجاً بتنصيب الياور. فقد سارع "الشمريون" من سكان تكريت إلى إقامة هذا الاحتفال، الأمر الذي يقدم مؤشراً على الأثر الإيجابي الذي أحدثه تنصيب الياور.
ولا يقل إيجابية، بل ربما يزيد، الأثر الذي سيتركه تنصيب الياور في نظرة شيعة العراق إلى المستقبل. فقد كان كثير منهم يتطلعون إلى وضع شيعي في منصب الرئيس للمرة الأولى في تاريخ العراق. وبالرغم من أن شيعياً تولى منصب رئاسة الحكومة الأكثر أهمية من حيث السلطة والقوة، يظل لكلمة "الرئيس" سحرها في العقل العربي كما سبقت الإشارة. ولذلك لم تكن ثمة ترضية للشيعة أكثر من رئيس سني بين عشيرته وأهله الكثير من الشي