لا يمكن أن ينجح أي مشروع إصلاحي في المنطقة العربية وفكرة الانخراط في السياسة والتسيس تعتبر فكرة كريهة لدى الغالبية العظمى من شرائح المجتمع العربي.... من دون أن تتسع دائرة المهتمين بالشأن العام والمتابعين له والمنخرطين والمؤثرين فيه، فإن دعاوى الإصلاح وبرامجها ستظل فوقية ونخبوية ومنفصلة عن الحراك المجتمعي العام. لهذا، فإن هناك حاجة حقيقية إلى إعادة تأهيل فكرة "السياسة والتسيس" في المجتمع العربي وتطبيعها وجعلها جاذبة، والتخلص من سمة الكراهة التي تعاني منها. وهي سمة تعود لأسباب عديدة ومديدة، أهمها الخوف. فقد ساهم القمع الشديد الذي تبنته دولة الاستقلال العربية في إخافة الشعوب من السياسة، شيبها وشبابها. فقد صارت السياسة تعني التورط فيما لا تحمد عقباه، وغدت وكأنها الطريق المحتوم للسجون والمعتقلات والتعذيب، وأحيانا الموت المحقق. ولأن تلك السياسة لم تنجح في تحسين الظروف العامة للمجتمعات التي تصدت لقيادتها، فقد تلازم بطش السياسة مع فشلها وكذبها. وهكذا تطورت في المخيلة المجتمعية، والشبابية بخاصة، صورة قاتمة للسياسة والسياسيين مقرونة بالقمع وعدم الرحمة، المجموع إليهما الكذب والخداع وعدم الصدق.
لكن مسألة ابتعاد شرائح مجتمعية واسعة عن السياسة والنخب السياسية ليست أمراً محصوراً في الوطن العربي. فعموماً تشترك دول ومجتمعات كثيرة في عالم اليوم في ظواهر عدة، رغم اختلاف تلك المجتمعات وعدم انتظامها في سياقات متشابهة. وتحديداً هنا، يمكن ملاحظة أن عدم تسيس الشرائح الشبابية والعزوف السلبي عن السياسة، هو أمر موجود في الغرب والشرق، كما في الشمال والجنوب. وهذا الابتعاد عن التسيس ملفت للنظر بشكل كبير (مقارنة مثلاً بأجيال شباب الخمسينيات والستينيات في أوروبا والولايات المتحدة، حيث المظاهرات والحملات السياسية سواء لإنهاء الاستعمار، أو لمساندة الحقوق المدنية والمساواة وغيرها). لكن يبقى أن هذا العزوف يشكل إعاقة حقيقية في طريق العملية السياسية سواء أكانت في البلدان الصناعية المتقدمة، أم البلدان النامية المتخلفة.
في مجموعة البلدان المتقدمة، لم تعد هناك فوارق أيديولوجية كبيرة بين التيارات السياسية الكبرى، بما يستهوي خوض النضال والمعارك من أجل قضايا حاسمة وكبرى. فهنا تتوافق الأحزاب الكبرى، والبرامج السياسية الأساسية، على تبني نزعات وسطية غير متطرفة، مشذبة تطرفاتها السابقة، ومعدلة في بوصلتها العامة لتتجه نحو الوسط. وأصبحت معركة الصراع السياسي تقوم بشكل أو بآخر في الوسط، للاتجاه نحوه، أو لاحتلاله. وتتنافس الأحزاب على الاقتراب أكثر ما يمكن منه فأصبحت: يسار الوسط، أو يمين الوسط، أو وسط الوسط. وفي صراع هذا شكله تبهت الفوارق إلى درجة غير جاذبة، وتتحول السياسة إلى ممارسة مملة، حيث يتشابه الجميع في الخطوط العريضة ولا يبرز التمايز إلا في التفاصيل الهامشية. فبين يسار الوسط (حيث أحزاب الاشتراكية الديمقراطية، والعمال، والخضر) ويمين الوسط (المحافظون بتنويعاتهم) تقاربت البرامج السياسية في أوروبا إلى درجة كبيرة، وتراجعت الكتلة الشعبية الوسطى إلى مربعات التهكم واللامبالاة.
لكن، واستطرادا، هناك على طرفي الصورة الوسطية تياران نشطان: اليسار الأممي الجديد (معارضو العولمة وأنصار القضايا العالمية العادلة)، واليمين العنصري (معارضو الهجرة، وخصوم التعددية الثقافية). وكلاهما يمتلكان قدرات متفاوتة على تحريك الشرائح الشبابية وإن كان ذلك باتجاهات مختلفة. اليسار الأممي يحشد المظاهرات والجموع ضد قضايا كبرى وغير محلية (مثل حرب العراق، أو اجتماعات البنك الدولي، أو منظمة التجارة العالمية وسائر تمظهرات العولمة). ويدعو لعالم أكثر عدلاً، ولنظام دولي قائم على المساواة وليس الاستئثار بالقوة والثروة. لكن أثر هذا اليسار الأممي في التسيس المحلي ليس جوهرياً. في المقابل، يُظهر اليمين العنصري قدرة أكبر على الحشد والتعبئة المحلية وتحريك فئات من الشباب لصالح أجندته المحلية. فهنا تكون القضايا أقل تعقيدا وأيسر فهما على "جمهور اليمين" العام بثقافته المحدودة من تلك القضايا التي تحتل أجندة اليسار المناهض للعولمة والتي تحتاج إلى ثقافة موسعة ومركبة بعض الشيء يمتاز بها أنصار اليسار. قضايا اليمين هي الوقوف ضد زيادة أعداد المهاجرين غير البيض، وإثارة الخوف منهم، وإحالة مشكلات تفاقم مشكلات البطالة وضعف الهوية واللغة الوطنية عليهم. والمطالب واضحة أيضا: إقفال أبواب الهجرة، أو ترحيل المهاجرين، أو إدماجهم قسرا في المجتمعات التي يعيشون فيها، وإلقاء التعددية الثقافية في سلة المهملات!
عربيا، نلحظ نفس الظاهرة: أي العزوف عن السياسة، لكن أسبابها تعود إلى عوامل أخرى، بعضها ربما تتشابه في الظاهر مع عوامل أخرى في البلدان الغربية. فتشابه السياسة والبرامج السياسية عند الأحزاب الكبرى في الغرب، يناظره عربيا توحد السياسة وعدم اختلافها بسبب احتكارها من قبل طبقة سياسية وحيدة طيلة عقود الاستقلال. فهنا وعربياً، يمكن الق