من الدروس التقليدية التي كان طالب علم السياسة المبتدئ يتلقاها في أولى سنوات دراسته الجامعية ذلك الدرس المشهور عن سيادة الدولة. كان الطالب يتعلم منذ الوهلة الأولى أن الكلمة مشتقة في أصلها اللاتيني من كلمة تعني "الأعلى"، وعندما يطبق المفهوم على الدول فإنه يعني أولاً أن للدولة سلطة مطلقة في مواجهة رعاياها في الداخل، وثانياً أنها لا تخضع لسلطة أعلى منها في مجتمع الدول. ينصرف القول إلى فضاء "القانون" الذي كان يشكل الملامح الأساسية للمفهوم بغض النظر عما يمكن أن يحيط به واقعياً من قيود، لكن هذه القيود بقيت غير مباشرة تستخلص من الواقع ولا توضع في متن التعريف، وهكذا وُجدت دائماً سيادات دول منقوصة بقدر ابتعادها في التطبيق عن مفهومها المجرد.
من ناحية ثانية كان هناك دائماً بعض من قادة دول كبرى وعظمى -كالرئيس السوفييتي بريچينيف إبان مرحلة الحرب الباردة- ممن ووجدوا أن لديهم من القوة ما يسمح لهم بتحدي مفهوم سيادة الدولة علناً، فتحدث بريچينيف عن مبدأ "السيادة المحدودة" في أعقاب الغزو السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا في 1968، وكان يعني به مفهوم السيادة داخل مجتمع الدول الاشتراكية في شرق أوروبا، فتلك الدول كان ينبغي عليها أن تراعي بموجب هذا المبدأ أن لتصرفاتها وجهين: أولهما يتصل بها مباشرة ولا شأن لأحد به، لكن الثاني يؤثر على مصالح الأسرة الاشتراكية، فإن أصاب هذه المصالح بضرر لا يمكن السكوت عليه وجب اتخاذ إجراءات مضادة لحمايتها بما في ذلك استخدام التدخل العسكري.
وعندما برزت ظاهرة العولمة كأوضح ما تكون في أعقاب انتهاء الحرب الباردة بدأ البعض -إن لم يكن الكثيرون- يتندر على مفهوم السيادة، ويعتبره خارج سياق الزمن، باعتبار أنه لا يمكن الحديث واقعياً عن سيادة في ظل العولمة التي لا تستطيع الدولة معها أن تسيطر على استقبال البث التليفزيوني من خارج حدودها، أو حركة رؤوس الأموال منها وإليها، أو صد موجات الدعوة إلى نشر الديمقراطية... إلخ، لكن الغالبية ظلت تنظر للمفهوم كرمز للاستقلال قد يصيبه بعض الوهن لكنه يبقى مثالاً أعلى على أية حال.
لكن ما فعلته الإدارة الأميركية بمفهوم السيادة فاق كل تصور، فالحديث صاخب عن نقل "السيادة" للعراقيين، بل إن الرئيس الأميركي في واحد من تجلياته غير المسبوقة اعترف بأن الذين يقاومون الاحتلال في العراق ليسوا جميعهم من الإرهابيين، لأن الاحتلال -وفقاً لبوش- لا يمكن احتماله من أي شخص، وبرر بذلك إقدام إدارته على نقل السيادة للعراقيين.
وعندما يمعن المرء النظر في مضمون هذه السيادة التي سبقت الإشارة إلى أنها مشتقة من لفظ "الأعلى"، يجد عجباً، فالحكومة التي تم تشكيلها لن يكون بمقدورها إصدار أية قوانين أساسية أو تعديل قوانين قائمة، ولن يكون لها -وفقاً لوزير الخارجية الأميركي- حق الاعتراض على العمليات العسكرية التي تقوم بها قوات "التحالف" بعد "انتهاء الاحتلال" في 30 يونيو الجاري، وإن كان إياد علاوي رئيس الوزراء العراقي قد طمأننا بأنه سوف يكون للحكومة كلمة "مسموعة" في تحركات القوات الأجنبية من خلال مجلس للأمن القومي يضم "جنرالات أميركيين".
وإذا كانت الحكومة العراقية لا تملك حق الاعتراض على تحركات قوات الاحتلال أو عملياتها العسكرية، فلن يكون لها من باب أولى حق الاعتراض على وجود هذه القوات أصلاً، لأنها -وفقاً لباول- "حكومة ذات سيادة وأعلنت موافقتها على وجود قوات "التحالف"، وتريد قوات التحالف هناك، وسننسق ونتعاون مع بعضنا"، بل إن مظاهر السيادة سوف تفيض على الحكومة العراقية على النحو الذي جعل الرئيس الأميركي واثقاً من التوصل إلى اتفاق معها يسمح ببقاء قوات التحالف.
وجد هذا التنكيل بمفهوم السيادة بطبيعة الحال جوقة من المروجين من المستفيدين من هذه السيادة في العراق، والسبب المعلن لهذا الترويج هو حاجة العراق إلى قوات الاحتلال للحفاظ على الأمن فيه لأنه -أي العراق- لا يملك الآن القدرة على ذلك في غيبة مؤسسات عسكرية وأمنية عراقية تتولى هذه المهمة، وهو منطق مقلوب يضع العربة أمام الحصان طالما أن السبب الرئيسي في فقدان الأمن هو واقعة الاحتلال ذاتها، بل لقد بدا المشهد منتمياً لمسرح اللامعقول عندما راح ممثلو النظام العراقي "ذي السيادة" في مجلس الأمن يستميتون لوأد التعديلات الأوروبية على مشروع القرار المعروض حالياً على المجلس بشأن العراق، والتي تسعى إلى وضع آماد زمنية لإنهاء الاحتلال، والحجة النافذة هنا أن الحكومة العراقية "ذات سيادة" وأنها أجدر الأطراف وأقدرهم على تحديد الأمد الزمني الملائم لإنهاء الاحتلال.
أما آن لهذا التنكيل بالحقائق والمفاهيم أن يتوقف؟ وأما آن لنا أن ننتبه إليه، وأن نحاول استشراف مستقبل ما يجري أمام أعيننا في وضوح تام؟ بالأمس القريب أكدت الإدارة الأميركية أن العراق يمتلك ترسانة أسلحة دمار شامل، ووجد الرئيس الأميركي في نفسه الجرأة كي يقول من منطق غطرسة القوة عن الرئيس العراقي السابق: "إنه ببساطة لا يريد أن ينزع أسلحته"، ولذ