لا نتجاوز إذا قلنا إن الجميع ينتظر عراق ما بعد 30 يونيو 2004، بعد أن أكد بوش الصغير التزام واشنطن بهذا التوقيت لنقل السلطة إلى العراقيين، وإن لم يفصح عن نوعية هؤلاء العراقيين الذين سيتسلمون السلطة وانتماءاتهم الدينية أو العرقية، وتوجهاتهم السياسية، وولاءاتهم الشخصية، وأسلوب وصولهم للسلطة، والجهات التي يمثلونها. وقد بدأت سلطة الاحتلال فعلاً في الإعلان عن نقل مسؤوليات بعض الوزارات إلى العراقيين، وجرى الإعلان عن تشكيل الحكومة الانتقالية. ولكن ما يحدث في العراق الآن لا يقف عند حدود إسقاط نظام سياسي معين، والسعي إلى إقامة نظام جديد، لأن أزمة العراق الحقيقية تكمن في تركيبة مجتمعه والظروف التي أحاطت بتكوينه وتشكيل معتقداته السياسية؛ لأن سقوط النظام كشف عيوباً جسيمة تعاني منها الدولة والمجتمع معاً في العراق، وهو ما يطرح كثيراً من التساؤلات حول السنوات التي أعقبت إعلان الاستقلال عام 1932: كيف مضت؟ وماذا تحقق فعلياً خلالها على مستوى البناء السياسي الداخلي؟. إن ما نشهده الآن في العراق هو حالة دولة مفككة تفتقر إلى الهوية والولاء الوطني، ولم تصل إلى مرحلة الدولة القومية الحديثة المتعارف عليها، التي تقوم على مؤسسات راسخة تشكل إطاراً عاماً جامعاً لكافة قوى وطوائف وفئات المجتمع، بحيث يتجاوز هذا الإطار الولاءات المحلية الضيقة سواء العشائرية أو القبلية أو العرقية أو الطائفية والمذهبية ليكون مفهوم "المواطنة" هو الأساس الذي تقوم عليه، ومن ثم تصبح عملية الاندماج القومي لتلك الطوائف كلها راسخة شكلاً ومضمونا.
وهنا تبرز تساؤلات عدة حول مستقبل عراق ما بعد 30 يونيو، هل سيكون ديمقراطياً أم ديكتاتورياً أم محتلاً أم مقسما؟ والإجابة الفورية عن هذا التساؤل هي أن العراق سيكون مقسماً. والأسباب التي تدعو إلى هذه النتيجة كثيرة منها ما هو قديم وما هو حديث، ومنها السياسي والاقتصادي، والاجتماعي والأمني؛ والداخلي والخارجي. فمن ناحية تاريخ العراق السياسي الحديث نجده يشير إلى أن العراق نشأ نتيجة لضم بريطانيا بعض الولايات العثمانية -التركية السابقة (بغداد والبصرة والموصل) بعد الحرب العالمية الأولى، ولم تكن أي من هذه الولايات راغبة في الانضمام إلى الدولة الجديدة. وعلى مدى فترة الحكم الملكي الهاشمي الذي استمر 38 عاماً شهد العراق حالة من الاستقرار السياسي؛ وإن لم يستطع أن يصوغ لمجتمعه هوية وطنية موحدة تنضوي تحت لوائها كل القوى الوطنية العراقية، لكن هذا لم يؤد إلى حدوث حرب أهلية أو نجاح أي من الحركات الانفصالية. ولكن بعد سقوط الملكية عام 1958، وقيام النظام البعثي الثاني عام 1968 بقيادة فعلية لصدام حسين، شهد العراق فترة عدم استقرار، حيث قُتل المتنافسون على الحكم في انقلابات عسكرية ومحاولات انقلابية، كما أضحت حملات التطهير المكثفة للقوات المسلحة سمة راسخة في الحياة السياسية العراقية. وظل المسلمون السنة المجموعة المهيمنة على الحكومات الجديدة التي تعاقبت على الحكم بعد سقوط الملكية، وامتدت سيطرتها إلى القوات المسلحة وأجهزة الشرطة والأمن والاستخبارات، ومصادر الثروة، الأمر الذي زاد من التفكك الداخلي للمجتمع، وشعور بعض عناصره ومكوناته بعدم المساواة وافتقاد حقوق المواطنة، فظهرت الكنتونات في الشمال والجنوب، وطغت بعض الانتماءات الطائفية والعرقية على حساب الهوية العراقية، ومن ثم بدأت تطفو على السطح النزعات الانفصالية، وتشتد حركات التمرد ضد نظام الطاغية صدام حسين، وفي المقابل تزداد قبضة النظام على كل مناحي الحياة. ولكن صدام حسين يعتبر إفرازاً منطقياً للنظام العراقي؛ حيث لم يتمكن من الاستيلاء على السلطة فقط، وإنما نجح في الاحتفاظ بها في ظل ظروف صعبة للغاية أيضاً، نظراً لاستخدامه مستوى أعلى من القسوة والقمع مقارنة بحكام العراق السابقين.
إن العراق بعد سقوط نظام الطاغية يشبه الغنيمة التي تحاول جميع القوى الداخلية الحصول على جزء منها، لشعور بعض عناصر الشعب العراقي بأنهم قد تعرضوا لظلم تاريخي سياسي كبير، سواء في تولي المناصب الرئيسية بالدولة أو في القوات المسلحة وفق وضعهم الديموجرافي، وذلك إما نتيجة وقوفهم ضد السلطة الحاكمة، وإما لخوف السلطة الحاكمة منهم، مما يجعلهم في حاجة لاقتناص أية فرصة سانحة في الوقت الراهن، ليحققوا مكاسب على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
لقد افتقد العراق التجربة الديمقراطية الكافية التي تؤهله لتقبل نظام التعددية السياسية، وهو أمر يحتاج إلى عملية متكاملة لتعليم وتثقيف الشعب العراقي بجميع أطيافه. ومن ثم فإن إرساء الديمقراطية أو حتى إقامة شكل من أشكال التعددية المرتجلة في العراق، في بيئة لم تشهد مسبقاً واقعاً من هذا القبيل، سيشكل تحدياً هائلاً أمام أي قوة احتلال تسعى لإقامة حكم في عهد ما بعد صدام، وفي الوقت نفسه تمثل تهديداً داخلياً كبيراً لكل قوى التركيبة السكانية التي تسعى لاقتناص الفرصة لتحقيق مصالحها الذاتية على حساب العراق، فالعراقيون من