الكلَّ يعلم أنّ الجيوش العربية بأكملها صارت قوات أمن داخلي، وهي تعجز رغم كثرتها واستعداداتها عن حفظ الاستقرار، لأنّ مشكلاتنا ليست مشكلاتٍ أمنية بل سياسية، ما أظهر الإصلاحيون المصريون سروراً كبيراً بتوجهات الرئيس المصري وآرائه الإصلاحية، مع أنها تحقّق قدراً كبيراً مما كانوا يطالبون به، ومن ضمنه إزالة قانون الطوارئ وأحكامه الاستثنائية، ومراعاة مسائل الحرية وحقوق الإنسان، ودعم استقلالية القضاء، وتشديد الرقابة على قضايا الفساد. أخذ المعارضون المصريون على رئيسهم عدم تعرضه لمسألة التداول السلمي والديمقراطي للسلطة؛ بما في ذلك التعهد بعدم السعي للتجديد له للمرة الخامسة؛ مع أنه كان قد نفى قبل شهورٍ السعْيَ لاستخلاف ابنه جمال، كما أنه أعلن التزامه بما توصل إليه المثقفون المصريون والعرب الآخرون في وثيقة الإسكندرية. ثم إنه صار معروفاً أنّ مصر ودولاً عربيةً أُخرى (من ضمنها السعودية) حاولت في مؤتمر القمة بتونس أن تسْتخرج وثيقةً جماعيةً حول الإصلاح تتناغم مع ما جرى الاتفاقُ عليه في اجتماع وزراء الخارجية العرب بالإسكندرية، لمواجهة اجتماع الدول الثماني بالولايات المتحدة الأسبوعَ المقبلَ، بتوجهٍ عربيٍ واحد. واعترضت على ذلك سوريا ودول أخرى من بينها عُمان والجزائر وتونس وقطر، بحجة أنّ الإصلاح ينبغي أن يكونَ ذاتياً ولا دَخْلَ لأحدٍ به!
على أي حال، يبدو أنّ الإصلاحيين العرب في ردود أفعالهم على مبادرات أو آراء الحكومات، لا ينطلقون من مضامين تلك المبادرات، أو لا يحكمون عليها من منطلق المضمون والمحتويات؛ بل من خبرتهم مع تلك الحكومات في الوعود القديمة والمستجدة. وهي تجاربُ وخبراتٌ لا تبعثُ على أي قدْرٍ من الثقة أو التفاؤل. فالذي حدث ويحدث منذ الثمانينيات من القرن الماضي، أنه نتيجةً لظروفٍ خارجيةٍ أو داخلية، يعمدُ نظامٌ عربيٌّ معيَّنٌ لطرح مبادرةٍ تتمثّلُ غالباً في نظامٍ انتخابيٍ جديد، أو في توسيع المجال السياسي بعض الشيء أو الإصغاء لمطالب الهيئات الدولية بمراعاة حقوق الإنسان. وفي العادة، كان المثقفون يُقْبلون على التهليل للمبادرة النيرة، ولنزاهة الحاكـم أو القائد وشفافيته. لكنّ المبادرة ما تلبثُ أن تُسحب أو يجري تجاهُلُها، فلا يسألُ أحدٌ عن ذاك التراجُع، ولا الحاكم يتحدث عن مسوِّغات المبادرة أو مبرِّرات الانسحاب. ونعرفُ الآن من الجدالات الجارية ما بين أنظمتنا والولايات المتحدة طَوالَ الأعوام الثلاثة الماضية، أنّ الأميركيين والأوروبيين كانوا يضغطون لشيء من الانفتاح، فيستجيبُ لذلك الحكام العرب شكلاً، ثم يعبّرون للأجانب الخائفين أكثر منهم من الأصولية الإسلامية، عن خوفهم من أن يستغلَّ الأصوليون الانفتاح وجو الحريات للانطلاق في عملياتهم الإرهابية، وفي استقطاب عطف الجمهور في الانتخابات المحدودة، فيستولون على السلطة، ويقيمون نظاماً أصولياً مثل ذاك الذي حلّ بالسودان منذ عام 1989! أما المثقفون والسياسـيون المعارضون، والذين كانوا يهلّلون للمبادرات السلطوية، ثم يصمتـون عندما تتوارى، فيعـودُ ذلك أيضاً لخوفهم الحقيقي وليس الموهوم من الإسلامية والإسلاميين. ففي انتخاباتٍ حرةٍ فعلاً سيأكل الإسلاميون (جماعة التيار الرئيسي) الجوَّ لدورةٍ أو دورتين، في حين يتوارى القوميون واليساريون والليبراليون على حدٍ سواء، في المدى القريب على الأقلّ. وتبقى فئةٌ ثالثةٌ صغيرة وغير أيديولوجية، من الإصلاحيين الحقيقيين، وهؤلاء يريدون الإصلاح فعلاً؛ لكنّ ضعفَهم الشعبي يحول دون صيرورتهم فريقاً سياسياً يستطيع أن يطرح مبادرةً أو يستغلَّها لصالح النهوض والتقدم.
وقد ازداد هذا الجوّ من التردد وعدم الثقة ظهوراً مع بروز المبادرة الأميركية للديمقراطية عشية غزو العراق، والاجتياح الشاروني الجديد لفلسطين. فقد اقترنت الخطوة الأميركية بالغزو والاحتلال والخراب والفظائع، والحرب على الإرهاب. وحنت الأنظمة العربية رأسها للعاصفة الهائجة، بينما انصرف المثقفون لشتم أميركا وديمقراطيتها. وقد تجددت لدى ذوي الميول الإسلامية المعتدلة من بينهم المقولة القديمة القائلة إنّ أولى الأَولويات اليومَ الاستقرار، والديمقراطية لا تُفرض بالقوة ومن الخارج. ولذا فمن الأفضل عدم التشديد على الإصلاح والتغيير بأي ثمنٍ؛ والانصراف لبذل المساعي التدرجية بالداخل، وإلاّ عرّضنا أنفسنا لضغوط الخارج ومآزقه كما هو مُشاهدٌ بالعراق وفلسطين. وخلال هذه الفترة (السنوات الثلاث الأخيرة) حدثت تجاربُ في المشرق والمغرب، مضت باتجاهاتٍ مختلفة، ووصلت إلى مآلاتٍ متباينة أيضاً. ففي الجزائر كان هناك قانون "الوئام المدني"، الذي هدف لاحتواء العنف الإسلامي، وفتح المجال السياسي من جديد. وفي السودان ازدادت مأثرة "الوفاق الوطني" الناجمة عن المفاوضات مع الجنوب الثائر، ومفارقة حسن الترابي. وفي سوريا كانت هناك المنابر والمنتديات الداعية إلى الديمقراطية. وفي البحرين والكويت وقطر وعُمان والمغرب حدثت انتخاباتٌ شبه ديمقراطية. وتحدث السعوديون عن انتخاب نصف أعض