كيف نفهم التشكل الحالي للسياسة العربية؟ يبدو الأمر بالغ الصعوبة. فالطابع التسلطي لنظم الحكم يعني انفراد جهاز الدولة الأمني والبيروقراطي بالسيطرة التامة. وتتعزز هذه السيطرة بسبب الانكماش الخطير لكل القوى السياسية والاجتماعية المستقلة باستثناء التيارات الدينية والقبلية والطائفية السياسية. وقد فرض هذا الطابع التسلطي والعنيف للدولة العربية استقطابا ثنائيا جامدا لا يعكس حقائق التنوع الاجتماعي والسياسي ولا الآفاق الحقيقية للثقافة السياسية والميول الفكرية في المجتمعات العربية. وحيث إن السياسة تتضمن فيما تتضمن السعي إلى تحقيق مصالح القوى الاجتماعية المختلفة فإن كل القوى الكبرى صاحبة المصالح المؤثرة في التشكيلة المجتمعية تختار في نهاية المطاف الانضواء الإجباري تحت مظلة حزب الدولة. وهو الأمر الذي يقود إلى مضاعفة انكماش الأحزاب الديمقراطية والاعتدالية الأخرى. ولأن حزب الدولة يصادر على التغيير السياسي فإن الأجيال الشابة التي ترفض حزب الدولة لكونه فاقدا لمثاليات سياسية تثبت قدرتها على إلهام الشعوب وحل مشكلاتها الخارجية والداخلية الكبرى، إما أن تزهد في السياسة كلية أو أن تذهب إلى التيارات المتطرفة وأحيانا العنيفة.
ورغم اضطرار كل أصحاب المصالح المباشرة والآنية إلى الانضمام الشكلي إلى هذا الحزب فهو يصبح آلة كبيرة معطلة تتحكم فيها أقلية بالغة الضآلة. ولذلك فإن الفرز الثنائي والصراع السياسي يدور في النهاية بين أقليات ضئيلة إحداها تسيطر على آلة الدولة الأمنية والعسكرية وتسعى الأخرى للسيطرة الكاملة على المشروعية الدينية ومشروعية المقاومة للإمبريالية الأميركية والصهيونية.
وبهذا المعنى فإن الاستبداد السياسي يفرض على القوى الاعتدالية التي لا تزال تشكل الغالبية الساحقة للمجتمعات العربية نوعا من الانتحار السياسي والأخلاقي وهو ما يجعلها منكشفة تماما أمام الهجوم الضاري المتواصل لقوى التطرف التي تجر المنطقة والعالم إلى منطق العنف المطلق والحروب الدينية. وهي في ذلك تتحالف موضوعيا مع نظيرتها وغريمتها المباشرة: أي قوى التطرف والعنف الديني والسياسي في الولايات المتحدة وفي إسرائيل. وقد تجهز النظم الاستبدادية وأحزاب الدولة جماهيرها الإسمية ذاتها للانتقال بمنتهى البساطة والسلاسة إلى أحزاب وقوى التطرف الديني ما أن تهتز قبضة الدولة وحزبها على الحكم لأسباب داخلية أو خارجية وهو ما حدث في السودان في أعقاب انقلاب عام 1989. حيث تأقلمت القوى الاجتماعية الكبرى مع نظام الحكم الجديد. وبتعبير آخر فإن جميع قوى الاعتدال قد تتبعثر فينتهي عصر الاعتدال الثقافي والديني والسياسي. إن بعض الأقطار العربية بدأت تدخل مرحلة الإنذار الأخير قبل أن يبدأ هذا السيناريو في التبلور: أي السيناريو نفسه الذي حدث في إيران عام 1975 وفي السودان عام 1989 وكاد يحدث في الجزائر عام 1992.
يبدو الحل النظري لتلك المعضلة بسيطا ومستقيما وهو تجمع قوى الاعتدال والتقدم معا في تشكيل واحد أو في جبهة سياسية متحدة بما فيها قوى الاعتدال الديني والمدني. ويبدو هذا الحل ممكنا إذا نجح في تغيير "ذهنية" نخبة الحكم أو فرض حالة ديناميكية سياسية جديدة تعيد صياغة الشكل السياسي للدولة العربية. ونتصور أن ذلك ممكن إذا بدأت القوى الأخرى خارج حزب الدولة بالاتحاد معا وخوض نضال نظري وأخلاقي وسياسي سلمي يعيد صياغة التشكيلة السياسية ويلهم المجتمع ويدخل أهم القوى الجماهيرية إلى فضاء السياسة والشأن العام، فيجبر حتى القطاع الأكثر تقدما من حزب الدولة على الانضمام إلى الجبهة أو الاتحاد العام لقوى الاعتدال والتقدم، ومن ثم يجبر الدولة ذاتها على تغيير شكلها وتبني الصيغة الديمقراطية.
ولكن هذا الحل يواجه عددا من المشكلات المعقدة. أولى هذه المشكلات هي تعريف معنى الاعتدال والتقدم الذي تتجمع حوله القوى الرافضة للتطرف السياسي والديني. ولا شك أن الوسطية الدينية تعد أحد أهم أبعاد الاعتدال. وهذه الوسطية تتحرك مع الزمن وفقا للاجتهادات الكبرى التي انسابت خلال القرن التاسع عشر والعشرين والتي جعلت من الممكن لقادة الفكر الديني المستنير أن يقودوا صياغة مشروع النهضة والتنوير والحركات الوطنية والقومية خلال العصر الليبرالي. أما في المجال السياسي فإن تعريف الاعتدال والتقدم يجب أن يخضع للتفاوض بالمعنى الواسع والمجازي للكلمة، ونتصور أنها تعني المشاركة في القيم الكونية والعالمية وعلى رأسها حقوق الإنسان والمواطنة والنظام الديمقراطي بتأسيسه الممكن تاريخيا والمناسب لكل مجتمع عربي على حدة، فضلا عن التنمية البشرية وإطلاق قدرات الإبداع وهو ما يتطلب حدا أدنى من الحريات الاقتصادية وحدا أدنى من الدور القيادي للدولة في المجال التنموي والعلمي والتكنولوجي فضلا عن دورها في التشريع التقدمي للمجتمع ووظائفها التقليدية في مجال الأمن والدفاع والحقوق القومية في الخارج.
ولكن هذا التعريف لا يغني عن وضع برامج عمل محددة لتحقيق الانطلاق. وهنا تبدو المشكلة أكثر ت