بعد جهد أوشك أن يتم عامة الثاني، وإثر مفاوضات انتقلت قيادتها قبل نحو تسعة أشهر إلى الرجل الثاني في نظام الحكم السوداني السيد علي عثمان، والرجل الأول في الحركة الشعبية لتحرير السودان السيد جون قرنق، بعد كل هذا أمكن التوصل إلى اتفاق بين الطرفين وقع في "نيفاشا" بكينيا يوم الجمعة الماضي الموافق الثامن والعشرين من مايو. وبذلك توضع أسس إنهاء الحرب الأهلية السودانية التي استمرت لواحد وعشرين عاما، وتبدأ بعدئذ مرحلة جديدة في حكم السودان وإدارته يؤمل أن تكون فاتحة لتحول ديمقراطي ينهى نظاما شموليا فرضَ ذاته بالسلاح منذ 15 عاما. ولأهمية الحدث وما سيترتب عليه فقد تقرر أن يجرى احتفال أكثر شمولا بهذه المناسبة، يعقد برئاسة جمهورية كينيا التي استضافت المحادثات، إضافة إلى عدد من الرؤساء ووزراء دول مجموعة الايقاد ووزراء خارجية الدول المعروفة باسم أصدقاء (الايقاد)، وهي الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وإيطاليا والنرويج وسيتم هذا الاحتفال في اليوم الرابع من يونيو الجاري.
إن أهم وأوضح معالم هذا الاتفاق هو إقرار مبدأ أن يكون حكم السودان خلال الفترة المقبلة شراكة بين حزب المؤتمر الوطني (الانقاذ) الحاكم الحالي، والحركة الشعبية بقيادة قرنق والأحزاب السياسية الأخرى التي ظلت ترفع لواء المعارضة للنظام القائم منذ مولده.
وبصورة عامة فإن قسمة السلطة تعطي الحزب الحاكم 52% من المناصب، وتحدد للحركة الشعبية 28%، ثم تبقى 20% تركت لكل الأحزاب السياسية الأخرى شمالية كانت أم جنوبية، وهو وضع اتفق علي استمراره لثلاث سنوات يعقبها إجراء انتخابات عامة يتبارى فيها الكل لكسب ثقة الناخبين، وتحت إشراف لجنة انتخابات تتمتع بالحيدة والاستقلال. ومعنى هذا أن مرحلة الديمقراطية الحقة لن تبدأ إلا بعد انقضاء السنوات الثلاث الأولى من المرحلة الانتقالية التي حددت لست سنوات.
وعندما أُعلن الوصول إلى اتفاق، وبعد أن أذيعت نسب توزيع السلطة، لم يأت رد فعل فاترا إلا وسط تجمعات النازحين للشمال من أبناء الجنوب، الذين كانت محنتهم ومأساتهم بالحرب أشد هولا لأنها مباشرة.
لاشك عندي أن كل فئات الشعب السوداني في الشمال وفي الجنوب رحبت بحرارة بإنهاء الحرب وإيقاف الاقتتال، ولكن بالنسبة للشماليين ذلك شيء، وإنهاء الحكم الحالي والعودة إلى رحاب الديمقراطية شيء آخر.
ومهما يكن من أمر فإن تحولاً ما قد بدأ في السودان، وإن مشاركة القوى الشمالية المعارضة في الحكم رغم ضآلة نسبتها العددية فإنها ستكون خطوة إلى الأمام، إذا أحسن قادة الأحزاب المعارضة استغلالها والاستفادة القصوى من الثقل الجماهيري الذي عرفت به من خلال الديمقراطيات السابقة.
إن أهم ما يقتضيه هذا التحول ليكون واقعا ملموسا أن تنهى حالة الطوارئ المعلنة من نجاح الانفلات العسكري في 30 يونيو 1989. إن ذلك سيعني إطلاق الحريات بكل أنواعها، وتلك هي القاعدة الذهبية التي ستمكن القوى السياسية المختلفة من ممارسة نشاطها بلا قيود، وذلك هو الماعون الحقيقي لبناء النظام الديمقراطي في السودان الذي طال شوق الشعب السوداني لتحقيقه.