ثلاث دوائر متداخلة وعاها هذا الجيل الذي يكاد ينقضي سواء من الحركة الوطنية الليبرالية أو من الحركة القومية العربية أو من الحركة الإصلاحية الإسلامية. فالوطن هو البؤرة، وليس أعز على الشعوب من استقلال الأوطان. قامت الثورات باسم الاستقلال مثل ثورة 1919 وكل الثورات العربية الأخيرة منذ منتصف الخمسينيات. وكان الاستقلال الاقتصادي أيضا باسم الوطن عند طلعت حرب وعبد الناصر. لا فرق بين حركة وطنية وحركة قومية، وفي "فلسفة الثورة" تتداخل الدوائر الثلاث، مصر والعروبة والإسلام، ويشمل الإسلام مجموع شعوب آسيا وأفريقيا. وفي الحركة القومية المتجددة الإسلام ثقافة العرب، وأحد تجليات العروبة "إذا كان محمد كل العرب فكل العرب محمد".
إنما الفرق بين التيارات الفكرية الثلاثة هو البداية. ففي التيار الليبرالي، الوطن هو البداية ولكنه وطن مفتوح على دول الجوار كما كان الحال في عصر محمد علي وعبدالناصر. فحدود مصر كوطن في الشام والسودان وشبه الجزيرة العربية. والإسلام ثقافتها وتاريخها. وفي التيار القومي، القومية هي البداية ولكنها قومية تقوم على تحرر الأوطان، وتعترف بخصوصيات الأقطار. والإسلام ثقافة العرب. والمسيحيون العرب نصارى دينا ومسلمون ثقافة. وفي التيار الإسلامي، الأمة الإسلامية هي البداية، والإسلام هو الموحد بين أقطارها، والعروبة حامله الأول، والوحدة العربية خطوة نحو الوحدة الإسلامية، والوطن جزء من الإسلام. فقد قامت معظم حركات التحرر الوطني في الوطن العربي والعالم الإسلامي من جبة الحركات الإصلاحية الإسلامية. وحب الأوطان ركيزة للحركة الإسلامية منذ الأفغاني الذي وضع أساس الحركة الوطنية في مصر، وهو واضع شعار "مصر للمصريين"، وهو الذي فجّر الثورة العرابية دفاعا عن الوطن، وخط تلميذه محمد عبده بيده برنامج الحزب الوطني. وفي بداية "مناهج الألباب" للطهطاوي أنشودة في حب الوطن، فحب الوطن من الإيمان. وقد ذرف الرسول صلى الله عليه وسلم دمعة حزناً على فراق مكة ليلة الهجرة. وفي المغرب العربي كله لا فرق بينهما وكما جسد ذلك علال الفاسي. فالوطني هو العربي المسلم، والعروبة هي اللسان، والإسلام ثقافة الجميع.
وكان من الطبيعي أن يعادي الغرب الاستعماري هذه التيارات الثلاثة لأنها جميعا تقاومه، وتريد الحرية للأوطان، والاستقلال للشعوب، فهي التي قادت حركات التحرر الوطني. قاد التيار الوطني حركات التحرر في النصف الأول من القرن العشرين. ورمزها ثورة 1919 في مصر، وثورة عز الدين القسام في 1936 في فلسطين، والحركة الوطنية السورية في 1945، وضرب فرنسا دمشق بالقنابل، والثورة الجزائرية في منتصف الخمسينيات.
ثم استمر التحرر الوطني بفضل التيار القومي منذ منتصف الخمسينيات. وبلغ الذروة في الناصرية في الستينيات، بداية برفض الأحلاف العسكرية في 1954 مثل حلف بغداد، ثم حلف طهران في 1965، ثم التأميم في 1956، والتمصير في 1957، ثم أول تجربة وحدوية عربية، الجمهورية العربية المتحدة 1958-1961، ثم قوانين يوليو الاشتراكية بعد الانفصال. ثم وقعت الواقعة في هزيمة 1967 لتعود حركة التحرر الوطني العربي من جديد مطالبة بالانسحاب من الأراضي المحتلة طبقا لقرارات الأمم المتحدة أو بالسلاح كما حدث في أكتوبر 1973.
وعلى الرغم من مشاركة التيار الإسلامي في حركات التحرر الوطني في العصر الليبرالي في النصف الأول من القرن العشرين قبل أن يستأثر به التيار القومي في النصف الثاني منه، وإزاحة التيار الإسلامي، صراعا على السلطة بل، ودفعه إلى السجون والمعتقلات وحل تنظيماته، إلا أنه عاد من جديد منذ أوائل السبعينيات بعد انقلاب الثورة العربية على نفسها، وتحولها إلى ثورة مضادة من داخلها، وبتشجيع منها، لتنفرد بالعمل الوطني وتصبح قوة المعارضة الأولى، وتستولي على حركة الشارع العربي والإسلامي. ثم تعلن النضال المسلح في فلسطين والعراق وأفغانستان وكشمير والشيشان. وتنزل تحت الأرض في تنظيمات سرية لتعلن أيضا مقاومة أنظمة الطغيان، وتحاور باقي التيارات الوطنية والقومية في جبهة واحدة للنضال ضد الاستعمار الجديد الذي عاد لغزو الأوطان، ومقاومة مشاريع الشرق الأوسط الكبير والإصلاح والتي تهدف إلى القضاء على التجمعات الإقليمية مثل الوطن العربي، وتفتيت العالم الإسلامي بعد اتخاذ الإسلام عدوا جديدا بديلا عن الشيوعية بعد نهاية عصر الاستقطاب، ووصفه بالإرهاب والعنف والتخلف والتسلط والقهر، لتبرير العدوان عليه في عصر الإمبراطوريات الأميركية والإسرائيلية الجديدة.
لذلك يشتد الضغط على هذه التيارات الفكرية السياسية الثلاثة وما تمثله من دول ونظم سياسية مثل مصر وسوريا والسعودية. فقد ساد مصر التيار الوطني الليبرالي في النصف الأول من القرن العشرين ومنذ ثورة عرابي في 1881، وتأسيس الحزب الوطني وزعاماته التاريخية، مصطفى كامل، محمد فريد، سعد زغلول، مصطفى النحاس. ثم قامت الثورة المصرية بأيديولوجية وطنية لتحقيق الاستقلال الوطني قبل أن تتحول إلى أيديولوجية قومية. وظلت الوطن