في تقديري أن حملة الكتابات المنادية بالإصلاح في مصر والتي اتسعت لها صفحات جميع الصحف المصرية سواء كانت معارضة أو مستقلة أو حكومية قد تزايدت خلال العام الماضي والحالي نتيجة لهذا الإحساس بالضرورة المزدوجة والوظيفة الثنائية للإصلاح في بناء حياة أفضل وأكثر تقدما في الداخل من ناحية، وبناء قدرة أعلى على مواجهة التحديات الخارجية من ناحية ثانية. وقبل زمن طويل من ظهور مشروع الشرق الأوسط الكبير في فبراير الماضي وقبل صدور بيان الإسكندرية للإصلاح في مارس الماضي كانت مقالات عديدة قد مست بشكل مكثف وموضوعي محاور الإصلاح المصري الثلاثة وهي المحور السياسي والمحور الاقتصادي والمحور الاجتماعي الثقافي العلمي. وعندما انطلقت دعوة الإصلاح النابع من الداخل على لسان الرئيس المصري في مواجهة المشروع الأميركي للإصلاح، شعر الكثير من الكتاب بأن جسرا من التفاهم قد نشأ بين دعاة الإصلاح وبين القيادة السياسية حول ضرورة التحرك الداخلي بالمقاييس الوطنية والحاجات المحلية لإطلاق عملية إصلاح شاملة. وفي هذا الإطار سجلت في عدة مقالات بصحيفتي الأهرام والوفد تأييدي الواضح لشعار الإصلاح النابع من الداخل مبدياً في إطار التأييد لموقف الرئيس، مناشدة صريحة لسيادته بضرورة تحويل الشعار إلى برنامج عمل يحدد المهام والمراحل والجدول الزمني اللازم لتنفيذها. مؤكدا من جانبي أن الطريقة الأكثر جدية وأمانا وضمانا لتحريك مسيرة الإصلاح النابع من الداخل إنما تتمثل في صدور البرنامج الإصلاحي من خلال المشاركة والحوار بين القيادة السياسية وأحزاب المعارضة وقوى المجتمع المدني والكتاب الإصلاحيين ليكون البرنامج معبرا عن إرادة المجتمع بجميع ممثليه وبالتالي يصبح محل التزام وتفهم لمراحله المدرجة من الجميع. ولقد أطلقت موقفي المتكامل في هذا الصدد في مقال بعنوان: انتفاضتكم سيادة الرئيس كيف نواصل نجاحها؟. في صحيفة الوفد بتاريخ 29/2/2004 اعتبرت فيه شعار الإصلاح النابع من الداخل الذي أطلقه الرئيس في مواجهة مشروع الشرق الأوسط الكبير بمثابة الانتفاضة التي يجب أن تتواصل لتحقيق النجاح من خلال صياغة برنامج عمل إصلاحي. ولقد توالت ردود فعل النخبة الثقافية من أساتذة الجامعة والكتاب والمثقفين لتؤيد شعار الرئيس وتناشده في الوقت نفسه بتحويله إلى واقع ملموس في حياة مصر.
لست أريد بهذا كله ترك انطباع بأنني أخصص هذا المقال لتجربتي الشخصية حول الكتابة في قضية الإصلاح المصري لكنني أمهد بهذا لتسجيل تطور أعتقد أنه شديد الأهمية ظهر في مقال رئيس تحرير الأهرام أكبر الصحف المصرية يوم الجمعة الماضي الموافق 28 مايو 2004.
ذلك أن نبرة المقال الإصلاحية وميله إلى تشخيص جوانب من مشكلات الحياة المصرية سياسيا واقتصاديا في صراحة ودون تورية أو موارية وضم صوت رئيس تحرير معروف بصلته الوثيقة بالقيادة السياسية إلى أصوات الكتاب المستقلين أو المعارضين أو من غير ذوي المراكز أو المناصب الحكومية، كل هذا سجل لدى الدوائر السياسية والإعلامية والثقافية علامة جديدة تشير إلى تطور جديد ومهم.
ولعل أبلغ تعبير عن هذه العلامة المهمة ودلالتها المرجحة على وجود عزم لدى القيادة السياسية على تحويل شعار الإصلاح النابع من الداخل الذي أطلقه الرئيس إلى برنامج عمل، هو ذلك الاهتمام الذي أبدته الصحف المصرية المعارضة والمستقلة بالمقال. فقد ظهرت تلخيصات له واقتباسات عنه مقرونة بالإشارة إلى أن صدور هذه التعبيرات الإصلاحية والتشخيصات الصريحة للمشكلات عن رئيس تحرير الأهرام إنما تعني أننا أصبحنا على مشارف نقلة نوعية في موقف القيادة السياسية تتجاوب مع مطالب دعاة الإصلاح.
إن تأمل واستعراض محتوى المقاطع الدالة في مقال رئيس تحرير الأهرام هنا يساعد على إيضاح صورة هذا التطور المهم في مسيرة الإصلاح المصرية والمتمثل في وحدة الرؤية واللغة بين كتاب الإصلاح وبين رئيس تحرير يعتقد معظم المراقبين أنه الأكثر تعبيرا عن اتجاهات القيادة السياسية.
يقول رئيس تحرير الأهرام في ختام مقاله الوارد تحت عنوان: "زيارة مبارك لرومانيا وروسيا والعودة إلى الاهتمام بالشأن الداخلي"، ما يلي: أحسب أن زيارة الرئيس لكل من رومانيا وروسيا الاتحادية تمثل بداية لمرحلة جديدة تزداد فيها مساحة الشأن الداخلي في حركة مصر الخارجية وتعد بداية العودة إلى تركيز الاهتمام على الداخل بعد التردي الكبير في أوضاعنا الداخلية التي وصلت إلى مرحلة غير مسبوقة من الضعف.
إن هذه الفقرة التي تبشر بأن تكون زيارة رومانيا وروسيا مؤشرا على العودة إلى الاهتمام بالقضايا الداخلية تزداد وضوحا في مراميها عندما يقدم رئيس تحرير الأهرام بلغة الإصلاحيين تشخيصه للواقع ومشكلاته على النحو التالي: فحالة الضعف باتت تشمل المجالات المتعددة من اقتصادية واجتماعية وثقافية وحتى رياضية، كما أن مستويات العديد ممن يتولون مهام تنفيذية لا ترقى إلى المستوى اللائق باسم مصر ومكانتها وسمعتها. ولم يتوقف الوهن عند الجوانب المادية بل امتد إلى الاعتبار