بتوقيع البروتوكولات الثلاثة في نيفاشا الأسبوع الماضي بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية تكون أطول حروب أفريقيا الأهلية قد وضعت أوزارها وسط تفاؤل عظيم وأمل كبير بأن تنطوي بذلك صفحة الحروب الأهلية كلها في السودان. وأن تبدأ مرحلة جديدة في تاريخ البلاد ينعم فيها أهلها بالسلام والاستقرار والأمن الذي افتقدوه طويلا. فالسودان عانى كثيراً وافتقد أكثر، ليس خلال الواحد وعشرين عاماً الماضية "بداية حرب الجنوب الثانية عام 83" فحسب، بل إن معاناة السودانيين الأليمة امتدت إلى سنوات الاستقلال الأولى في النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين. فالحرب التي انطلقت شرارتها بتمرد عسكري محدود في أحد المعسكرات الحربية "توريت عام 1955" قد اتسع نطاقها وتمدد لهيبها حتى كاد يشمل السودان كله جغرافيا. وتلك الأجزاء منه التي لم يمسها لهيب النيران الفعلية، قد أصابها من الحرب ما أصابها في أرواح أبنائها وفي تداعيات الحرب النفطية التي لم تقتصر على تدمير الأرض والزرع، بل أحدثت أثرها المدمر في الأرواح والنفوس. وغرست من الأحقاد والكراهية والشكوك المتبادلة ما سيحتاج إلى زمن لمعالجة أثاره ومحوها من النفوس.
وليس الزمن وحده ما سيحتاجه السودان للتخلص من رواسب "حرب الإخوة" البشعة، لكنه سيحتاج أكثر للحكمة والصبر وسعة الأفق وتقوية روح التسامح والتصالح والعدل والمساواة في تعامل كل الأطراف مع بعضها بعضاً، لكي يجتاز تلك المحنة ويتخلص من رواسب الحرب وآثارها المدمرة للنفس البشرية. وهذه المهمة التاريخية شديدة الأهمية هي ما يتعين على قيادات السودان السياسية والروحية والفكرية وعلى أبنائه وبناته الناشطين والناشطات في ميادين العمل المدني العام أن يضعوه على رأس أجندة العمل الوطني في هذه المرحلة التي أطلت بشائرها بإطلالة توقيع اتفاق السلام الشامل الذي يأمل الناس أن يبدأ العمل به قريبا. إن التوصل إلى اتفاق السلام وإنهاء الحرب بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية هو إنجاز وجد وسيجد الترحيب من كل السودانيين الذين اكتووا بنيران الحرب ومن أشقائهم وأصدقائهم وجيرانهم الذين أصابهم بصورة أو بأخرى رشاش تلك الحرب الطويلة المهلكة. لكن توقيع الاتفاقات على الورق لا يعني أن "المشكلة السودانية" قد انتهت وانطوت صفحتها بمجرد التوقيع. إن السودانيين اليوم مواجهون بمرحلة قد تكون أكثر صعوبة وأشد خطورة على مستقبل بلدهم من مرحلة الحرب التي انطوت صفحتها. تلك هي مرحلة بناء السلام والتصالح الوطني. إن معارك الحرب هي معارك صعبة ومرهقة، لكن معركة بناء السلام هي الأكثر صعوبة. فمعارك الحروب أدواتها السلاح المدمر، ومعارك بناء السلام واستقرار الأوطان أدواتها القناعة البشرية وروح التضحية وحب الوطن والالتزام الصارم بالعهود والمواثيق، وتلك كلها أدوات لا تملكها الحكومة والحركة وحدهما، ولا يكفي امتلاكهما لها لتحقيق السلام وإعادة بناء الوطن من جديد. ففي معركة السلام وإعادة بناء السودان فإن الفاعل الأول هو الشعب السوداني بكل قواه واتجاهاته السياسية وتشكيلاته العرقية والدينية. وإذا لم ينخرط الشعب السوداني كله في مسيرة بناء السلام العادل والدائم بحريته وإرادته الوطنية الصادقة فإن "اتفاقيات نيفاشا" وما حملته من آمال وأحلام مشروعة لن يكون مصيرها أحسن من مصير اتفاقية أديس أبابا الموؤودة. فمواجهة تحديات السلام تحتاج إلى توحد إرادة كل السودانيين وذلك ما يأمله كل محب لخير السودان.