يدرك شارون تمام الإدراك ماذا يعني البيت وماذا يعني أن تتهدم الذكريات والأحلام فوق رؤوس أصحابها... وإلا لما كان هذا الإصرار الإجرامي على تجريف بيوت الفلسطينيين في رفح وغيرها من المدن الفلسطينية. فالبيت دفء وحميمية وشعور طاغ بالاستقرار والهدوء وغير ذلك. فالبيت، مخزن خاص للذكريات التي مرت وللأحداث التي عبرت ولا يذكرها سوى الأسمنت. البيت هو الأغاني والقصائد المجهولة الساكنة أرفف المكتبة المنسية والتي تجدد ذاكرتها بين حين وحين. البيت هو غبار سكن أسطح ما كان وما سيكون ربما.
فالبيوت ملأى بالحكايات، وبأسرار أهلها وبقصص لا يدرك مغزاها إلا من فقد بيته أو أي شيء من روحه إن لم تكن روحه بأكملها.
مروع شكل تلك السيدة تفتش بين بقايا ما كان بيتها، كأني بها تبحث عن ألبوم صور ربما كان به اختصار لتفاصيل بيتها، وكأنه المفردة الوحيدة التي يمكن أن تدافع عنها بين أنقاض الحلم الجميل المسروق دائماً والموشى باختصار المجرم وجعله مجرد حلم يعبر كالشهب ليكون البقاء مجرد البقاء هو الهدف الأوحد والأخير لأهالي البيوت المقتولة، والتي تبكي زمنها وزمناً صار فيه البيت حلماً يصعب الحفاظ عليه، وكأنه كنز لا يمكن العثور عليه إلا في الأساطير وقصص الأولين.
ويرفض الغريب هدم الأحلام، ليؤسس ظاهرة ترفض كل هذا العبث وهذه السريالية في الاستهتار بما هو حق للآخر... ونتظاهر نحن بطريقتنا الأنجع. فالمال صار فرصة جديدة للحياة، ليعبئ مزيداً من فرص الغضب لحالة الخرس التي أصابت الشارع العربي، ليس عجزاً بقدر ما هو يأس مما يمكن أن يكون.
وحسب البيوت ألا تجد من ساكنيها من يبكيها أو يشعر بقيمة أن يكون له جدار وسقف وباب مغلق على خصوصيته ومكان يؤويه كلما داهمه المساء أو غدر الأصدقاء، أو حتى لفحة برد يمكن أن تلقي به على سرير من دفء ودواء وألم يزول سريعاً، لأن البيت يعالج مرض صاحبه ويرفق بتعبه وينصت لبوحه حين تخونه الآذان التي حسب دائماً أنها هناك لتكون له دون سواه.
نمر فوق جراح الثكالى كالغرباء، وتحزن أعيننا من مشاهد الدمار والهلع والمرض لكن شيئاً ما لا يتغير! كأن ما يحدث عبارة عن مسلسل طويل حلقاته مكررة وسقطت في فخ الاعتياد والترداد الذي يبلد المشاعر ويمنعها من اتخاذ موقف أو حتى ذرف دمعة على جفاف الأماكن التي غدر بها المجرم وحرمها من بيتها.
لكن جارتي العجوز التي تجاوزت السبعين، أكثر شجاعة مني ومن جيلي ومن جيل الثقافة والتكنولوجيا فإنها لا تكف عن الدعاء وعن الصلاة. تدعو الله أن يقتصَّ من المجرمين، وتقيم ليلها في ابتهال صادق لينقذ خالقها هؤلاء البشر الذين يتمهم اليهود من بيوتهم وأهاليهم وكل ما يمكن أن يمس إنسانيتهم... وتأخذ ما تحتويه أدراجها من مال لتنقذ أولئك البسطاء مثلها. ونبقى نحن في حالة شلل غريب لا يمكن وصفه أو التعبير عنه أو حتى اعتباره موقفاً ضد كل هذه الجرائم المتتالية. فحتى هذا الشرف لا نملكه ولا نملك سوى ماذا؟ ...فراغ!