في مثل هذا الأسبوع من عامين، وفي خطاب له أمام مجموعة من المرشحين العسكريين المتخرجين من أكاديمية "ويست بوينت"، أعلن الرئيس بوش رسميا تدشين عقيدته الخاصة بالحرب الاستباقية عندما قال:"لن نتمكن من كسب الحرب ضد الإرهاب من موقع الدفاع... وإنما يجب علينا أن ننقل المعركة إلى أرض العدو، ونفسد خططه ونواجه أسوأ التهديدات قبل أن تتبلور. ففي العالم الذي دخلنا فيه، فإن الطريق الوحيد للأمان والسلامة هو طريق العمل... وقد قررت هذه الأمة أن تعمل".
خلال 10 شهور من تاريخ هذا الخطاب، أنجز بوش وعده، عندما قام بإرسال الجنود الأميركيين إلى بلد يبعد عن الوطن قرابة 7 الآف ميل للإطاحة بصدام حسين. وبعد مرور أقل من شهرين على اليوم الذي أسقطت فيه الطائرات الأميركية أول قنبلة على العراق، هبط بوش على ظهر حاملة الطائرات "أبراهام لنكولن", ليعلن أمام آلاف البحارة المتحمسين أن المهمة الأميركية في العراق "قد انتهت". وفي تلك اللحظة شعر المدافعون عن ذلك النهج الجديد في السياسة الخارجية أن الأحداث قد برهنت على صحة رؤيتهم تماما.
أما اليوم فإننا نجد أن عقيدة الاستباق تواجه مصاعب جمة. فبدلا من أن تقوم بالتدليل على فعالية المبدأ، فإن حرب العراق والتداعيات التي نشأت عنها قد أبرزت في النهاية أن لتلك النظرية حدودا. الدليل على ذلك أنه عندما قام بوش بمخاطبة هيئة تدريس وطلاب كلية الحرب البرية في الآونة الأخيرة، فإنه قام بالتحدث عن ضرورة إتمام ما جئنا من أجله. بيد أن المشكلات التي أحاطت بالاحتلال الأميركي في العراق على مدار العام الماضي، تجعل من غير المرجح أن يتمكن الرئيس بوش من توظيف تكتيك الاستباق بنجاح في أي مكان آخر، أو في أي وقت قريب.
إن عقيدة بوش في الحرب الاستباقية قد تجاوزت كل ما قام الرؤساء الأميركيون السابقون بالتفكير فيه. فعلى رغم أن خيار استخدام القوة على نحو استباقي كان خيارا مطروحا دائما أمام الرؤساء الأميركيين السابقين، وأن بعض هؤلاء الرؤساء قد قام باستخدام هذه المبدأ، ومنهم على سبيل المثال "بيل كلينتون" الذي استخدمه عام 1998، عندما قامت طائراته بشن هجوم على مصنع أدوية يقع في مدينة الخرطوم. إلا أن مفهوم بوش في الحرب الاستباقية قد تجاوز مجرد الاستجابة لخطر وشيك كما كان يحدث من قبل، ليتم استخدامه أيضا في تغيير الأنظمة. وكان تحول بوش الجذري عن ممارسات الماضي يقوم على افتراضين أساسيين أظهرت تجربتنا في العراق خطئهما فيما بعد. الافتراض الأول يتعلق بالاعتقاد أن واشنطن سوف تتمكن من الحصول على استخبارات يمكن الاعتماد عليها حول نوايا وقدرات الخصوم المحتملين، وأنه حتى إذا ما كان مجتمع العدو مغلقا، فإن تقنياتنا التجسسية الحديثة سوف تتمكن من اختراقه وتحويلة إلى شبه كتاب مفتوح. وهذا الافتراض يبدو مشكوكا فيه بعد مرور 14 شهرا على سقوط صدام. ففي عشية حرب العراق، خاطب بوش الأمة قائلا: "إن المعلومات التي تم جمعها بواسطة أجهزة استخباراتنا وأجهزة استخبارات الدول الأخرى لا تترك مجالا للشك بأن النظام العراق لا يزال يمتلك ويخفي بعضا من أكثر الأسلحة التي تم اختراعها فتكا وتدميرية". وبعد مرور أسبوع على انطلاق الحرب تفاخر وزير الدفاع بأننا( نعرف المكان الذي توجد به تلك الأسلحة).
مع ذلك، فإنه يتبين لنا بعد مرور ما يزيد على عام على انطلاق الحرب، فإن القوات الأميركية الموجودة في العراق لم تعثر بعد على أي سلاح من أسلحة الدمار الشامل (إلا إذا كنا نعتبر قذيفة مدفعية واحدة تم إنتاجها في ثمانينيت القرن الماضي ويحتمل أن تكون بها آثار من غاز الأعصاب المسمى "سارين" من ضمن تلك الأسلحة). وهكذا فأننا نجد أن التنبؤات الاستخبارية السابقة للحرب تبدو -على الأقل حتى الآن- وكأنها قد ضلت الهدف لدرجة أن الرئيس بوش لم يعد يحاجج بان الحرب كانت مبررة وأن برامج إنتاج أسلحة الدمار الشامل الذي كانت بحوزة العراق كانت تمثل تهديدا خطيرا للأمن الأميركي.
الافتراض الثاني الذي دفع بوش لشن حرب استباقية كان اعتقاده أن التفوق التكنولوجي الذي تتمتع به الولايات المتحدة سوف يجعل تكاليف الحرب رخيصة أو مقبولة – على أقل تقدير.
ربما بدا هذا الافتراض صحيحا في الأيام الأولى التي أعقبت الزحف الأميركي السريع نحو بغداد، ولكنه يبدو الآن افتراضا ساذجا في أعقاب القتال الذي وقع في الفلوجة والنجف. فالذي ثبت من التجربة هو أن تكلفة الحرب قد تصاعدت بشكل ضخم خلال الثلاثة عشر شهرا التي تلت إعلان الرئيس "أن المهمة قد انتهت"، وأن التركيز الشديد على إطاحة الأنظمة قد أدى بنا إلى تجاهل المهمة الأكثر صعوبة من ذلك بكثير وهي مهمة إعادة بناء الأمم.
ومع الصعوبات العديدة التي نواجهها في العراق، وتفاقم تكلفة الاحتلال فإنه ليس هناك ما يدعو للدهشة في أن نجد أن استراتيجية الحرب الاستباقية قد أصبحت فجأة عقيدة أقل جاذبية بكثير عما كانت تبدو عليه، وأن مهمة إقناع الشعب الأميركي بشن حرب استباقية أخرى في مكان مختلف من العالم ستكون بالتالي